للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْغَيِّ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ: أَيْ يَوْمَ إِذْ تَسَاءَلُوا وَتَرَاجَعُوا فِي الْقَوْلِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا اشْتَرَكُوا فِي الْغَيِّ، اشْتَرَكُوا فِيمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ. إِنَّا كَذلِكَ: أَيْ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ بِهَؤُلَاءِ نَفْعَلُ بِكُلِّ مُجْرِمٍ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِجْرَامِهِ عَذَابُهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَكْبَرِ إِجْرَامِهِمْ، وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَإِفْرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنْهُمْ مَا قَدَحُوا بِهِ فِي الرَّسُولِ، وَهُوَ نِسْبَتُهُ إِلَى الشِّعْرِ وَالْجُنُونِ، وأنهم ليسوا بتاركي آلِهَتِهِمْ لَهُ وَلِمَا جَاءَ بِهِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ إِنْكَارِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْكَارِ الرِّسَالَةِ. وَقَوْلُهُمْ: لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ:

تَخْلِيطٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَارْتِبَاكٌ فِي غَيِّهِمْ. فَإِنَّ الشَّاعِرَ هُوَ عِنْدَهُ مِنَ الْفَهْمِ وَالْحِذْقِ وَجَوْدَةِ الْإِدْرَاكِ مَا يَنْظِمُ بِهِ الْمَعَانِيَ الْغَرِيبَةَ وَيَصُوغُهَا فِي قَالَبِ الْأَلْفَاظِ الْبَدِيعَةِ، وَمَنْ كَانَ مَجْنُونًا لَا يَصِلُ إِلَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

ثُمَّ أَضْرَبَ تَعَالَى عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَخْبَرَ بِأَنْ جَاءَ الْحَقُّ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ إِضْمِحْلَالٌ، فَلَيْسَ مَا جَاءَ بِهِ شِعْرًا، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَّقَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ هُوَ وَهُمْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي دَعْوَى الْأُمَمِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَصَدَقَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، الْمُرْسَلُونَ بِالْوَاوِ رَفْعًا، أَيْ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فِي التَّبْشِيرِ بِهِ وَفِي أَنَّهُ يَأْتِي آخِرَهُمْ. وقرأ الجمهور: لَذائِقُوا الْعَذابِ، بِحَذْفِ النُّونِ لِلْإِضَافَةِ وَأَبُو السَّمَّالِ، وَأَبَانٌ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ: بِحَذْفِهَا لِالْتِقَاءِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَنَصْبِ الْعَذَابِ. كَمَا حَذَفَ بَعْضُهُمُ التَّنْوِينَ لِذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَحَدُ اللَّهُ، وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي السَّمَّالِ أَنَّهُ قَرَأَ: لَذَائِقٌ مُنَوَّنًا، الْعَذَابَ بِالنَّصْبِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ جَمْعٌ، وَإِلَّا لَمْ يَتَطَابَقِ الْمُفْرَدُ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي إِنَّكُمْ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرُ اللَّهَ إِلَّا قليلا

وقرىء: لَذَائِقُونَ بِالنُّونِ، الْعَذَابَ بِالنَّصْبِ، وَمَا تَرَوْنَ إِلَّا جَزَاءً مِثْلَ عَمَلِكُمْ، إِذْ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِكُمْ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ، يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ، قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>