طَالُوتَ بِالنَّهَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْمُنَزَّلُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَهُوَ دُونَ السِّحْرِ. وَقِيلَ: السِّحْرُ لِيُعْلَمَ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّعْلِيمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ يَسِيرٌ بِمَبَادِئِهِ. وَقِيلَ: مَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَافْتِرَاءً عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ نَازِلًا عَلَيْهِمَا السِّحْرُ، قَالَ: لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِنْزَالُهُ، وَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُبْطِلُهُ، وَإِنَّمَا الْمُنَزَّلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الشَّرْعُ، وَإِنَّهُمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَا حَرْفُ نَفْيٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ.
عَلَى الْمَلَكَيْنِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ «١» ، فَقِيلَ: هَمَّا جِبْرِيلَ وَمِيكَالُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ. وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا وَهُمَا: هَارُوتُ وَمَارُوتُ.
وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي إِعْرَابُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبْزَى: الْمَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللَّامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا رَجُلَانِ سَاحِرَانِ كَانَا بِبَابِلَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُعَلِّمُ النَّاسَ السِّحْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا عِلْجَانِ بِبَابِلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى: هُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: هُمَا شَيْطَانَانِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبْزَى تَكُونُ مَا نَافِيَةً، وَعَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ، فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، تَكُونُ مَا مَوْصُولَةً. وَمَعْنَى الْإِنْزَالِ: الْقَذْفُ فِي قُلُوبِهِمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، قَصَصًا كَثِيرًا، تَتَضَمَّنُ:
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعَجَّبَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَكَّتَهُمْ، بِأَنْ قَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ لِلْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ، فَحَكَمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتُتِنَا بِامْرَأَةٍ، تُسَمَّى بِالْعَرَبِيَّةِ الزُّهْرَةَ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ مِيذَخْتَ، فَطَلَبَاهَا وَامْتَنَعَتْ، إِلَّا أَنْ يَعْبُدَا صَنَمًا، وَيَشْرَبَا الْخَمْرَ وَيَقْتُلَا. فَخَافَا عَلَى أَمْرِهِمَا، فَعَلَّمَاهَا مَا تَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا تَنْزِلُ بِهِ، فَصَعِدَتْ وَنَسِيَتْ مَا تَنْزِلُ بِهِ، فَمُسِخَتْ. وَأَنَّهُمَا تَشَفَّعَا بِإِدْرِيسَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَخَيَّرَهُمَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَهُمَا بِبَابِلَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute