للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَعْرُوفِ، لَاصْطَفى: أَيِ اخْتَارَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مَا يَشَاءُ وَلَدًا عَلَى سَبِيلِ التَّبَنِّي، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «١» ، وَهُوَ عَامٌّ فِي اتِّخَاذِ النَّسْلِ وَاتِّخَاذِ الِاصْطِفَاءِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّخَاذَ هُوَ التَّبَنِّي، وَالِاصْطِفَاءُ قَوْلُهُ: مِمَّا يَخْلُقُ: أَيْ مِنَ الَّتِي أَنْشَأَهَا وَاخْتَرَعَهَا ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ تَنْزِيِهًا مُطْلَقًا فَقَالَ:

سُبْحانَهُ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقَهْرِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ لا متنع، وَلَمْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ مُحَالًا، وَلَمْ يَتَأَتَّ إِلَّا أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضَهُمْ، وَيَخْتَصَّهُمْ وَيُقَرِّبَهُمْ كَمَا يَخْتَصُّ الرَّجُلُ وَلَدَهُ وَيُقَرِّبُهُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ، فَافْتَتَنْتُمْ بِهِ وَغَرَّكُمُ اخْتِصَاصُهُ إِيَّاهُمْ، فزعمتم أنه أَوْلَادُهُ جَهْلًا مِنْكُمْ بِهِ وَبِحَقِيقَةِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا فَعَلَ مِنِ اصْطِفَاءِ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، إلا أنكم لِجَهْلِكُمْ بِهِ، حَسِبْتُمُ اصْطِفَاءَهُمُ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلَادًا، ثُمَّ تَمَادَيْتُمْ فِي جَهْلِكُمْ وَسَفَهِكُمْ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ بَنَاتٍ، وَكُنْتُمْ كَذَّابِينَ كَفَّارِينَ مُبَالِغِينَ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكِيبُ لَوْ وَجَوَابِهَا أَنَّهُ كَانَ يَتَرَتَّبُ اصْطِفَاءُ الْوَلَدِ مِمَّا يَخْلُقُ على تقديره اتِّخَاذِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُ، فَلَا يَصْطَفِيهِ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ يَعْنِي: لَوْ أَرَادَ إِلَى آخِرِهِ، وَقَوْلِهِ: بَعْدُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَرَادَ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا فَعَلَ مِنِ اصْطِفَاءِ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَلَيْسَ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ.

وَلَمَّا نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ وَوَصَفَ ذَاتَهُ بِالْوَحْدَةِ وَالْقَهْرِ، ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِالْحَقِّ، وَتَكْوِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَسْخِيرِ النَّيِّرَيْنِ وَجَرْيِهِمَا عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَاتِّسَاقِ أَمْرِهِمَا عَلَى مَا أَرَادَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ تَخْرُبُ بِنْيَةُ هَذَا الْعَالَمِ فَيَزُولُ جَرْيُهُمَا، أَوْ إِلَى وَقْتِ مَغِيبِهِمَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ وَقْتِ قَوَايِسِهَا كُلَّ شَهْرٍ.

وَالتَّكْوِيرُ: تَطْوِيلٌ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَكَأَنَّ الْآخَرَ صَارَ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

يَحْمِلُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُدْخِلُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِهِمَا بِالنُّقْصَانِ مِنَ الْآخَرِ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُدْخِلُ هَذَا عَلَى هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ أَوْجُهٌ: مِنْهَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةٌ، يَذْهَبُ هَذَا وَيَغْشَى مَكَانَهُ هَذَا وَإِذَا غُشِّيَ مَكَانَهُ فَكَأَنَّمَا أُلْبِسَهُ وَلُفَّ عَلَيْهِ كَمَا يُلَفُّ عَلَى اللَّابِسِ اللِّبَاسُ وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُغِيِّبُ الْآخَرَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ، فَشُبِّهَ فِي تَغْيِيبِهِ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ ظَاهِرٍ لُفَّ عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنْ مَطَامِحِ الْأَبْصَارِ وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا يَكُرُّ عَلَى هَذَا كرورا


(١) سورة مريم: ١٩/ ٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>