عَالِمِينَ، فِي الْأَرْضِ: فِي أَرْضِ مِصْرَ، قَدْ غَلَبْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهَا، وَقَهَرْتُمُوهُمْ وَاسْتَعْبَدْتُمُوهُمْ، وَنَادَاهُمْ بِالْمُلْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا وأجهلها، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ شَهَوَاتِهِمْ، وَانْتَصَبَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَذُو الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ لَكُمْ. ثُمَّ حَذَّرَهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ إِنْ جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ لَمْ يَجِدُوا نَاصِرًا لَهُمْ وَلَا دَافِعًا، وَأَدْرَجَ نَفْسَهُ فِي قوله: يَنْصُرُنا، وجاءَنا لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ، وَلِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الَّذِي يَنْصَحُهُمْ بِهِ هُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ فِيهِ. وَأَقْوَالُ هَذَا الْمُؤْمِنِ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ هَيْبَةِ فرعون من قبله، وَلِذَلِكَ اسْتَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَالَ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى: أَيْ مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِقَتْلِهِ، وَلَا أَسْتَصْوِبُ إِلَّا ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مِنْ لَا تَحَكُّمَ لَهُ، وَأَتَى بِمَا وَإِلَّا لِلْحَصْرِ وَالتَّأْكِيدِ.
وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ، لَا مَا تَقُولُونَهُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِ وَقَدْ كَذَبَ، بَلْ كَانَ خَائِفًا وَجِلًا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَجَلَّدُ، وَيُرِي ظَاهِرَهُ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ. وَأَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ هُنَا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَرَأَ الرَّشَّادِ بِشَدِّ الشِّينِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ فِي بِنْيَةِ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ رَشَدَ، فَهُوَ كَعَبَّادٍ مِنْ عَبَدَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مِنْ رَشِدَ، كَعَلَّامٍ مِنْ عَلِمَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ:
هُوَ لَحْنٌ، وَتَوَهَّمَهُ مِنَ الْفِعْلِ الرُّبَاعِيِّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، بَلْ هُوَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، عَلَى أَنَّ بَعْضُهُمْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ، فَبَنَى فَعَّالَ مِنْ أَفْعَلَ، كَدَرَّاكِ مِنْ أَدْرَكَ، وَسَآرٍ مِنْ أَسْأَرَ، وَجَبَّارٍ مِنْ أَجْبَرَ، وَقَصَّارٍ مِنْ أَقْصَرَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وُجِدَتْ عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَفَعَّالٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ مَقِيسٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُفَسِّرُهَا بِسَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَبْعُدُ عِنْدِي عَلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَلْ كَانَ فِرْعَوْنُ إِلَّا يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهٌ؟ وَتَعَلَّقَ بِنَاءُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَإِيرَادُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ، وَتَرْكِيبُ قَوْلُ مُعَاذٍ عَلَيْهِ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِ: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّوَامِحِ) لَهُ مِنْ شَوَاذِّ الْقِرَاءَاتِ مَا نَصَّهُ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سَبِيلَ الرَّشَادِ، الْحَرْفُ الثَّانِي بِالتَّشْدِيدِ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ، وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَوْضَحَ الشَّرَائِعَ، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ مُرْشِدٍ، كَدَرَّاكٍ مِنْ مُدْرِكٍ، وَجَبَّارٍ من مجبر، وفصار مِنْ مُقْصِرٍ عَنِ الْأَمْرِ، وَلَهَا نَظَائِرُ مَعْدُودَةٌ، فَأَمَّا قَصَّارٌ فَهُوَ مِنْ قَصَرَ مِنَ الثَّوْبِ قِصَارَةً. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي التَّنَادِ وَفِي صَدٍّ عَنِ السَّبِيلِ مَا نَصُّهُ:
سَبِيلُ الرَّشَّادِ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يَعْنِي بِالرَّشَّادِ اللَّهَ تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute