للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَوْ شَاءَ رَبُّنَا إِنْزَالَ مَلَائِكَةٍ بِالرِّسَالَةِ مِنْهُ إِلَى الْإِنْسِ لَأَنْزَلَهُمْ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إِرْسَالِ الْبَشَرِ، إِذْ عَلَّقُوا ذَلِكَ بِأَقْوَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَشَاءُ ذَلِكَ فِي الْبَشَرِ؟ فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ: خِطَابٌ لِهُودٍ وَصَالِحٍ وَمَنْ دَعَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَغَلَّبَ الْخِطَابَ عَلَى الْغَيْبَةِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَقُومَانِ. وما مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِإِرْسَالِكُمْ، وَبِهِ تَوْكِيدٌ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَفَرُوا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْإِرْسَالُ، كَانَ كُفْرًا بِالْإِرْسَالِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: بِما أُرْسِلْتُمْ إِقْرَارًا بِالْإِرْسَالِ، بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ بِمَا أُرْسِلْتُمْ عَلَى زَعْمِكُمْ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «١» .

وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَ عَادٍ وَثَمُودَ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ خَاصِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا: أَيْ تَعَاظَمُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَعَنْ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، بِغَيْرِ الْحَقِّ: أَيْ بِغَيْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ. وَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، وَكَانَ فِعْلًا قَلْبِيًّا، ذَكَرَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفِعْلِ اللِّسَانِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنْ مَا فِي الْقَلْبِ، وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً: أَيْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ مِنَّا، وَذَلِكَ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنْ عِظَمِ الْخَلْقِ وَشَدَّةِ الْبَطْشِ. فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَمَعَ عِلْمِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، كَانُوا يَجْحَدُونَهَا وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِهَا، كَمَا يَجْحَدُ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ مِنْ طَالِبِهَا مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهَا. وَلَفْظَةُ كَانَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ تُشْعِرُ بِالْمُدَاوَمَةِ، وَعَبَّرَ بِالْقُوَّةِ عَنِ الْقُدْرَةِ، فَكَمَا يُقَالُ: اللَّهُ أَقْدَرُ مِنْهُمْ، يُقَالُ: اللَّهُ أَقْوَى مِنْهُمْ. فَالْقُدْرَتَانِ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَإِنْ تَبَايَنَتِ الْقُدْرَتَانِ بِمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَاصَّةِ. كَمَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ، وَيُوصَفُ الْإِنْسَانُ بِالْعِلْمِ.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَصَابَ بِهِ عَادًا فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً

فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ خَزَنَةَ الرِّيحِ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمْ قَدْرَ حَلْقَةِ الْخَاتَمِ، وَلَوْ فَتَحُوا قَدْرَ مِنْخَرِ الثَّوْرِ لَهَلَكَتِ الدُّنْيَا» .

وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الْعِيرَ بَأَوْقَادِهَا، فَتَرْمِيهِمْ فِي الْبَحْرِ.

وَالصَّرْصَرُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدَةُ السَّمُومِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ:

مِنَ الصِّرِّ، أَيْ بَارِدَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالطَّبَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: مِنْ صَرْصَرَ إِذَا صَوَّتَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: صَرْصَرَ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الصَّرَّةِ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُ: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ «٢» . وَصَرْصَرٌ: نَهْرٌ بِالْعِرَاقِ. وقرأ الحرميان،


(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٧.
(٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>