للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّغْوَ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الْقَوْلِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ لَغَا يَلْغَى بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَقِيَاسُهُ الضَّمُّ، لَكِنَّهُ فُتِحَ لِأَجْلِ حَرْفِ الْحَلْقِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ يَلْغِي. وَالثَّانِيَةُ مِنْ يَلْغُو.

وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَتْحُ مِنْ لَغَى بِالشَّيْءِ يَلْغَى بِهِ إِذَا رَمَى بِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى بِهِ، أَيْ ارْمُوا بِهِ وَانْبُذُوهُ. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ: أَيْ تَطْمِسُونَ أَمْرَهُ وَتُمِيتُونَ ذِكْرَهُ.

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ فِي الدُّنْيَا كَوَقْعَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا، وَالْأَسْوَأُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَشَمَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْقَائِلِينَ وَالْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا. ذلِكَ: أَيْ جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَالنَّارُ بَدَلٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، وجزاء مبتدأ والنار خبره. لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ: أَيْ فَكَيْفَ قِيلَ فِيهَا؟ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا دَارُ الْخُلْدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «١» ، وَالرَّسُولُ نَفْسُهُ هُوَ الْأُسْوَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَفِي اللَّهِ إِنْ لَمْ يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، وَمَجَازُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُجْعَلُ الشَّيْءُ ظَرْفًا لِنَفْسِهِ، بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقَ صَارَ الشَّيْءُ مُسْتَقِرًّا لَهُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِيَّةِ عَنْهُ: جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ جَزَاءَهُمْ بِمَا كَانُوا يَلْغُونَ فِيهَا، فَذَكَرَ الْجَحُودَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ اللَّغْوِ. وَلَمَّا رَأَى الْكُفَّارُ عِظَمَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ عَذَابِ النَّارِ، سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ يُرِيَهُمْ مَنْ كَانَ سَبَبَ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ يُرَادُ بِهِمَا الْجِنْسُ، أَيْ كُلُّ مُغْوٍ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمَا إِبْلِيسُ وَقَابِيلُ، إِبْلِيسُ سَنَّ الْكُفْرَ، وَقَابِيلُ سَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ. قِيلَ: وَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ؟

عَنْ عَلِيٍّ: وَقَابِيلُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا الْمُضِلِّينَ بِالْكُفْرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْخُلُودِ

، وَقَدْ أَصْلَحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ قَالَ: طَلَبَ قَابِيلُ كُلَّ عَاصٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَطَلَبَ إِبْلِيسُ كُلَّ كَافِرٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَنْبُو عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَعَنْ إِصْلَاحِهِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ أَرِنَا فِي قَوْلِهِ: وَأَرِنا مَناسِكَنا «٢» . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَكَوْا عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَرِنِي ثَوْبَكَ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى: بَصَّرْنِيهِ، وَإِذَا قَلَتْهُ بِالسُّكُونِ، فَهُوَ اسْتِعْطَاءٌ مَعْنَاهُ: أَعْطِنِي ثَوْبَكَ وَنَظِيرُهُ اشْتِهَارُ الْإِيتَاءِ فِي مَعْنَى الإعطاء، وأصله الإحضار.


(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٢١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>