للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا يُرِيدُ، وَنَبَّهَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ الْكَائِنَاتِ نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَهَبُ لِبَعْضٍ إِنَاثًا، وَلِبَعْضٍ ذُكُورًا، وَلِبَعْضٍ الصِّنْفَيْنِ، وَيَعْقِمُ بَعْضًا فَلَا يُولَدُ لَهُ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ عَمَّتْ. فَلُوطٌ أَبُو بَنَاتٍ لَمْ يولد له ذكور، وإبراهيم ضِدُّهُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وُلِدَ لَهُ الصِّنْفَانِ، وَيَحْيَى عَقِيمٌ.

انْتَهَى. وَذُكِرَ أَيْضًا مَعَ لُوطٍ شُعَيْبٌ، وَمَعَ يَحْيَى عِيسَى، وَقَدَّمَ تَعَالَى هِبَةَ الْبَنَاتِ تَأْنِيسًا لَهُنَّ وَتَشْرِيفًا لَهُنَّ، لِيُهْتَمَّ بِصَوْنِهِنَّ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» .

وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرُهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ الذَّكَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْإِنَاثِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَدَّمَ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ مَعَ تَقَدُّمِهِمْ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَدَّمَهُمْ؟ وَلِمَ عرف الذكور بعد ما نَكَّرَ الْإِنَاثَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْبَلَاءَ فِي آخِرِ الْآيَةِ الْأُولَى. وَكُفْرَانُ الْإِنْسَانِ: نِسْيَانُهُ الرَّحْمَةَ السَّابِقَةَ عِنْدَهُ.

ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِذِكْرِ مُلْكِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَذِكْرِ قِسْمَةِ الْأَوْلَادِ، فَقَدَّمَ الْإِنَاثَ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ أَنَّهُ فَاعِلٌ مَا يَشَاؤُهُ، لَا مَا يَشَاءُ الْإِنْسَانُ، فَكَانَ ذِكْرُ الْإِنَاثِ اللَّائِي مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَشَاؤُهُ الْإِنْسَانُ أَهَمَّ، وَالْأَهَمُّ أَوْجَبَ التَّقْدِيمَ. وَالْبَلَاءُ: الْجِنْسُ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعُدُّهُ بَلَاءً، ذَكَرَ الْبَلَاءَ وَأَخَّرَ الذُّكُورَ. فَلَمَّا أَخَّرَهُمْ لِذَلِكَ تَدَارَكَ تَأْخِيرَهُ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ بِتَعْرِيفِهِمْ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَنْوِيهٌ وَتَشْهِيرٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الْفَرِيقَيْنِ، الْأَعْلَامُ الْمَذْكُورِينَ الَّذِينَ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ أَعْطَى بَعْدَ ذَلِكَ كِلَا الْجِنْسَيْنِ حَظَّهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعِرْفَانُ تَقْدِيمِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لِتَقَدُّمِهِنَّ، وَلَكِنْ لِمُقْتَضًى آخَرَ فَقَالَ: ذُكْراناً وَإِناثاً، كَمَا قَالَ: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى «١» ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «٢» . انْتَهَى. وَقِيلَ:

بَدَأَ بِالْأُنْثَى ثُمَّ ثَنَّى بِالذَّكَرِ، لِتَنْقِلَهُ مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَحِ. وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ فَيَرْضَى. فَإِذَا وَهَبَ لَهُ الذَّكَرَ، عَلِمَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: قَدَّمَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ لَهُمْ، كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّهِ أَكْثَرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ غُلَامًا، ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ تَلِدَ تَوْأَمًا، غُلَامًا وَجَارِيَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَعْنِي آدَمَ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ تَوْأَمَيْنِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى تُزَوِّجُ ذَكَرَ هَذَا الْبَطْنِ أُنْثَى الْبَطْنِ الْآخَرِ. انْتَهَى.

وَلَمَّا ذَكَرَ الْهِبَةَ فِي الْإِنَاثِ، وَالْهِبَةَ فِي الذُّكُورِ، اكْتَفَى عَنْ ذِكْرِهَا في قوله:


(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٣.
(٢) سورة القيامة: ٧٥/ ٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>