للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّخْبِيطِ فِي أَقْصَى الدَّرَجَةِ، وَكَانَ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بْنِ الزُّبَيْرِ الثَّقَفِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ تُرْبَتَهُ، يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: مَتَى رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ فِي الْبَحْثِ أَوِ التَّصْنِيفِ، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ، إِمَّا لِقُصُورِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْفَنِّ، أَوْ لِتَخْلِيطِ ذِهْنِهِ وَعَدَمِ إِدْرَاكِهِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الْمُتَغَايِرَاتِ مُتَمَاثِلَاتٌ.

وَإِنَّمَا أَمْعَنْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ، وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ النَّاسُ فِي كُتُبِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، بَلْ إِنَّمَا تَرَكْنَا ذَلِكَ عَمْدًا، وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ.

وَمَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ، شَرْطِيَّةٌ، وَهِيَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَفِي نَنْسَخْ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَائِبٍ إِلَى مُتَكَلِّمٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ؟ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَنْسَخْ مِنْ نَسَخَ، بِمَعْنَى أَزَالَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي إِزَالَةِ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ مَعًا، أَوْ إِزَالَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ، أَوِ الْحُكْمِ فَقَطْ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ وَابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ: مَا نُنْسِخْ مِنَ الْإِنْسَاخِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ: لَيْسَتْ لُغَةً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ نَسَخَ وَأَنْسَخَ بِمَعْنًى، وَلَا هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجِيءُ: مَا يُكْتَبْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا يَنْزِلْ مِنْ آيَةٍ، فَيَجِيءُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ عَلَى هَذَا مَنْسُوخًا. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا نَجِدُهُ مَنْسُوخًا، كَمَا يُقَالُ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ مَحْمُودًا، وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتَهُ بَخِيلًا.

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ نَجِدُهُ مَنْسُوخًا إِلَّا بِأَنْ يَنْسَخَهُ، فَتَتَّفِقَ الْقِرَاءَاتُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي النَّسْخِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِنَّمَا أَفْعَلَ لِوُجُودِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي أَفْعَلَ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الهزة فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ قَالَ: وَإِنْسَاخُهَا الْأَمْرُ بِنَسْخِهَا، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَجْعَلَهَا مَنْسُوخَةً، بِالْإِعْلَامِ بِنَسْخِهَا، وَهَذَا تَثْبِيجٌ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَى كَوْنِ الْهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ.

وَإِيضَاحُهُ أَنَّ نَسَخَ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى لِاثْنَيْنِ. تَقُولُ: نَسَخَ زَيْدٌ الشَّيْءَ، أَيْ أَزَالَهُ، وَأَنْسَخُهُ إِيَّاهُ عَمْرٌو: أَيْ جَعَلَ عَمْرٌو زَيْدًا يَنْسَخُ الشَّيْءَ، أَيْ يُزِيلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ مَا نَنْسَخُكَ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا نُبِيحُ لَكَ نَسْخُهُ، كَأَنَّهُ لَمَّا نَسَخَهُ اللَّهُ أَبَاحَ لِنَبِيِّهِ تَرْكَهَا بِذَلِكَ النَّسْخِ، فَسَمَّى تِلْكَ الْإِبَاحَةَ إِنْسَاخًا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا هُوَ جَعْلُ الْهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ، لَكِنَّهُ وَالزَّمَخْشَرِيَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ، أَهْوَ جِبْرِيلَ أَمِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ؟ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِنْسَاَخَ هُوَ الْأَمْرَ بِالنَّسْخِ. وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْإِنْسَاخَ إِبَاحَةَ التَّرْكِ بِالنَّسْخِ. وَخَرَّجَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى تَخْرِيجٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>