للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَسْنَا نَخُوضُ الْمَوْتَ فِي حومة الوغا ... إِذَا طَابَ وِرْدُ الْمَوْتِ بَيْنَ الْعَسَاكِرِ

فَنَضْرِبُ هَامًا بِالذِّرَاعَيْنِ نَنْتَمِي ... إِلَى حَسَبٍ مِنْ جِذْعِ غَسَّانَ زَاهِرِ

فَلَوْلَا حَيَاءُ اللَّهِ قُلْنَا تَكَرُّمًا ... عَلَى النَّاسِ بِالْحَقَّيْنِ هَلْ مِنْ مُنَافِرِ

فَأَحْيَاؤُنَا مِنْ خَيْرِ مَنْ وَطِئَ الْحَصَا ... وَأَمْوَاتُنَا مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْمَقَابِرِ

قَالَ: فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُ لِأَمْرٍ، وَقَدْ قُلْتُ شِعْرًا فَاسْمَعْهُ، وَقَالَ:

أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْرِفُ النَّاسُ فَضْلَنَا ... إِذَا خَالَفُونَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ

وَإِنَّا رُءُوسُ النَّاسِ فِي كُلِّ غَارَةٍ ... تَكُونُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ التَّهَائِمِ

وَإِنَّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: «قُمْ فَأَجِبْهُ» ، فَقَامَ وَقَالَ:

بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمُ ... يَصِيرُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ

هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ ... لَنَا خَوَلٌ مِنْ بَيْنِ ظِئْرٍ وَخَادِمِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَقَدْ كُنْتَ غَنِيًّا يَا أَخَا دَارِمٍ أَنْ يُذْكَرَ مِنْكَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ لَتِنُوهُ» . فَكَانَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا قَالَهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ حَسَّانُ إِلَى شِعْرِهِ فَقَالَ:

فَإِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ... وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تُقْسَمُوا فِي الْمَقَاسِمِ

فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَأَسْلِمُوا ... وَلَا تَفْخَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ بِدَارِمِ

وَإِلَّا وَرَبِّ الْبَيْتِ قَدْ مَالَتِ الْقَنَا ... عَلَى هَامِكُمْ بِالْمُرْهِفَاتِ الصَّوَارِمِ

فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا الْأَمْرُ، تَكَلَّمَ خَطِيبُنَا، فَكَانَ خَطِيبُهُمْ أَحْسَنَ قَوْلًا، وَتَكَلَّمَ شَاعِرُنَا، فَكَانَ شَاعِرُهُمْ أَشْعَرَ وَأَحْسَنَ قَوْلًا، ثُمَّ دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَا يَضُرُّكَ مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا» ، ثُمَّ أَعْطَاهُمْ وَكَسَاهُمْ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَادَاةَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ وَإِسَاءَةُ الْأَدَبِ، وَاللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِتَوْقِيرِ رَسُولِهِ وَتَعْظِيمِهِ. وَالْوَرَاءُ: الْجِهَةُ الَّتِي يُوَارِيهَا عَنْكَ الشَّخْصُ مِنْ خَلْفٍ أَوْ قُدَّامٍ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِنَّ الْمُنَادَاةَ نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، بَيْنَ مَا تَثْبُتُ فِيهِ وَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>