للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَكَرِهْتُمُوهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ فقد كرهتموه، فلا تفعلون. وَقِيلَ: لَمَّا وَقَّفَهُمْ عَلَى التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً، فَأَجَابَ عَنْ هَذَا: لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ يَقُولُهَا، فَخُوطِبُوا عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا لَا، فَقِيلَ لَهُمْ: فَكَرِهْتُمُوهُ، وَبَعْدَ هَذَا يُقَدَّرُ فَلِذَلِكَ فَاكْرَهُوا الْغِيبَةَ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُعْطَفُ قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، وَفِيهِ عَجْرَفَةُ الْعَجَمِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمَّا قَرَّرَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَكْلَ جِيفَةِ أَخِيهِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَكَرِهْتُمُوهُ، أَيْ فَتَحَقَّقَتْ بِوُجُوبِ الْإِقْرَارِ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ وَإِنْكَارِهِ لِإِبَاءِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْحَدُوا كَرَاهَتَكُمْ لَهُ وَتَقَذُّرُكُمْ مِنْهُ، فَلْيَتَحَقَّقَ أَيْضًا أَنْ تَكْرَهُوا مَا هُوَ نَظِيرُهُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالطَّعْنِ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى، وَفِيهِ أَيْضًا عَجْرَفَةُ الْعَجَمِ. وَالَّذِي قَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ أَسْهَلُ وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا، وَأَجْرَى عَلَى قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقِيلَ:

لَفْظُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، تَقْدِيرُهُ: فَاكْرَهُوهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَوَضْعُ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْأَمْرِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ اتَّقَى اللَّهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ، أَيْ لِيَتَّقِ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ انْجَزَمَ يُثَبْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.

وَمَا أَحْسَنَ مَا جَاءَ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. جَاءَ الْأَمْرُ أَوَّلًا بِاجْتِنَابِ الطَّرِيقِ الَّتِي لَا تُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ الظَّنُّ ثُمَّ نَهَى ثَانِيًا عَنْ طَلَبِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ الظَّنِّ، فَيَصِيرُ عِلْمًا بِقَوْلِهِ: وَلا تَجَسَّسُوا ثُمَّ نَهَى ثَالِثًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إِذَا عُلِمَ، فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ، ظَنٌّ فَعِلْمٌ بِالتَّجَسُّسِ فاغتياب. وضمير النصب فِي كَرِهْتُمُوهُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ.

وَقِيلَ: عَلَى الْمَيِّتِ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ: فكرّهتموه، الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْأَكْلِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَيِّتِ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ،

وَأَبُو حَيْوَةَ: فَكُرِّهْتُمُوهُ، بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَرَوَاهَا الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

، وَالْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَكَرِهَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَقِيَاسُهُ إِذَا ضُعِّفَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ الْخُدْرِيِّ وَمَنْ مَعَهُ، أَيْ جَعَلْتُمْ فَكَرِهْتُمُوهُ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ فَعَلَى التَّضْمِينِ بِمَعْنَى بَغَّضَ، وَهُوَ يتعدى لواحد، وبإلى إِلَى آخَرَ، وَبَغَّضَ مَنْقُولٌ بِالتَّضْعِيفِ مِنْ بَغَّضَ الشَّيْءَ إِلَى زَيْدٍ.

وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً

<<  <  ج: ص:  >  >>