للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَكَثُرَتْ آرَاؤُهُمْ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ: تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، فَإِنَّهُ شَاعِرٌ سَيَهْلِكُ، كَمَا هَلَكَ زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةُ وَالْأَعْشَى، فَافْتَرَقُوا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ نَقْصِ الْفِطْرَةِ بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُ الشِّعْرَ، وَهُوَ الْكَلَامُ الْمَوْزُونُ عَلَى طَرِيقَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنَ النَّثْرِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَلَى ذَلِكَ الْمِضْمَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُدْرِكُ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ فِيهِمْ شعراء، ولكنهم تمالؤوا مَعَ أُولَئِكَ النَّاقِصِي الْفِطْرَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، حجدا لِآيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ اسْتِيقَانِهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُتَرَبَّصُ بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِهِ، رَيْبَ: مَرْفُوعٌ، وَرَيْبُ الْمَنُونِ: حَوَادِثُ الدَّهْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُومُ عَلَى حَالٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:

تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا

وَقَالَ الْهِنْدِيُّ:

أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

قُلْ تَرَبَّصُوا: هُوَ أَمْرُ تَهْدِيدٍ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ هَلَاكَكُمْ، كَمَا تَتَرَبَّصُونَ هَلَاكِي. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ: عُقُولُهُمْ بِهَذَا، أَيْ بِقَوْلِهِمْ كَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْعَى أَهْلَ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى. وَقِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَا بَالُ قَوْمِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَقْلِ؟ فَقَالَ: تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا اللَّهُ، أي لم يصبحها التَّوْفِيقُ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ، قِيلَ: أَمْ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ، أَيْ أتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل، والصحيح أنها تتقدر ببل وَالْهَمْزَةِ.

أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ: أَيْ مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ فِي الْعِنَادِ مَعَ ظُهُورِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ:

بَلْ هُمْ، مَكَانَ: أَمْ هُمْ، وَكَوْنُ الْأَحْلَامِ آمِرَةً مَجَازًا لَمَّا أَدَّتْ إِلَى ذَلِكَ، جُعِلَتْ آمِرَةً كَقَوْلِهِ: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا «١» . وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ:

كُلُّ مَا فِي سُورَةِ وَالطُّورِ مِنْ أَمْ فَاسْتِفْهَامٌ وَلَيْسَ بِعَطْفٍ. تَقَوَّلَهُ: اخْتَلَقَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «٢» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقَوَّلَهُ مَعْنَاهُ: قَالَ عَنِ الْغَيْرِ أَنَّهُ قَالَهُ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَذِبٍ مَخْصُوصٍ. انْتَهَى. بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ: أَيْ لِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، ثُمَّ عَجَّزَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ: أَيْ مُمَاثِلٍ للقرآن في نظمه ووصفه مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الْمَعَانِي وَالْإِخْبَارِ بِقِصَصِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ والمغيبات،


(١) سورة هود: ١١/ ٨٧.
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>