للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ: عَبَّرَ عَنْ إِيجَادِهِ بِالْإِنْزَالِ، كَمَا قَالَ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ «١» . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَوَامِرَ وَجَمِيعَ الْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ لَمَّا كَانَتْ تُلْقَى مِنَ السَّمَاءِ، جُعِلَ الْكُلُّ نُزُولًا مِنْهَا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَرَادَ بِالْحَدِيدِ جِنْسَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ السِّنْدَانِ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِيقَعَةُ.

فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ: أَيِ السِّلَاحُ الَّذِي يُبَاشَرُ بِهِ الْقِتَالُ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ: فِي مَصَالِحِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فَمَا مِنْ صِنَاعَةٍ إِلَّا وَالْحَدِيدُ آلَةٌ فِيهَا. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ علة لإنزال الكتاب والميزان وَالْحَدِيدِ.

مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَبِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَبِمَا يُعْمَلُ مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ لِيَعْلَمَهُ مَوْجُودًا، فَالتَّغَيُّرُ لَيْسَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، بَلْ فِي هَذَا الْحَدَثِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَقَوْلُهُ:

بِالْغَيْبِ مَعْنَاهُ: بِمَا سَمِعَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْغَائِبَةِ عَنْهُ، فَآمَنَ بِهَا لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا.

وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِهِ بِقُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْجِهَادَ لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْصِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَرَتَّبُ مَعْنَى الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبًا وَعَدْلًا مَشْرُوعًا، وَسِلَاحًا يُحَارَبُ بِهِ مَنْ عَانَدَ ولم يهتد يهدي اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ. وَفِي الْآيَةِ، عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، حَثٌّ عَلَى الْقِتَالِ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِرْسَالَ الرُّسُلِ جُمْلَةً، أَفْرَدَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، تَشْرِيفًا لَهُمَا بِالذِّكْرِ. أَمَّا نُوحٌ، فَلِأَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَلِأَنَّهُ انْتَسَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ مُعَظَّمٌ فِي كُلِّ الشرائع. ثم ذكر


(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>