الْمَفَرُّ، كَلَّا لَا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ، بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ، كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ مَنْ راقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ، فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ فِي آخِرِ مَا قَبْلَهَا قَوْلَهُ: كَلَّا بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ «١» ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَذَكَرَ هُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُمَلًا مِنْ أَحْوَالِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَا أُقْسِمُ. وَالْخِلَافُ فِي لَا، وَالْخِلَافُ فِي قِرَاءَاتِهَا فِي أَوَاخِرِ الْوَاقِعَةِ. أَقْسَمَ تَعَالَى بِيَوْمِ القيامة لعظمه وهوله. ولا أُقْسِمُ، قِيلَ: لَا نَافِيَةٌ، نَفَى أَنْ يُقْسِمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وَأَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، نَصَّ عَلَى هَذَا الْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالْأَمْرَيْنِ. وَاللَّوَّامَةُ، قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ عَلَى هَذَا مَمْدُوحَةٌ، وَلِذَلِكَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنِ مُجَاهِدٍ، تَلُومُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَنْدَمَ عَلَى الشَّرِّ لِمَ فَعَلَتْهُ، وَعَلَى الْخَيْرِ لِمَ لَمْ تَسْتَكْثِرْ مِنْهُ.
وَقِيلَ: النَّفْسُ الْمُتَّقِيَةُ الَّتِي تَلُومُ النُّفُوسَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى تَقْصِيرِهِنَّ فِي التَّقْوَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْفَاجِرَةُ الْخَشِعَةُ اللَّوَّامَةُ لِصَاحِبِهَا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ سَعْيِ الدُّنْيَا وَأَعْرَاضِهَا، فَهِيَ عَلَى هَذَا ذَمِيمَةٌ، وَيَحْسُنُ نَفْيُ الْقَسَمِ بِهَا. وَالنَّفْسُ اللَّوَّامَةُ: اسْمُ جِنْسٍ بِهَذَا الْوَصْفِ.
وَقِيلَ: هِيَ نَفْسٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ تَزَلْ لَائِمَةً لَهُ عَلَى فِعْلِهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكُلُّ نَفْسٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ بِمُطَمْئِنَةٍ وَلَا أَمَّارَةٍ بِالسُّوءِ فَإِنَّهَا لَوَّامَةٌ فِي الطَّرَفَيْنِ، مَرَّةً تَلُومُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، وَمَرَّةً تَلُومُ عَلَى فَوْتِ مَا تَشْتَهِي، فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ خَلَصَتْ وَصَفَتْ. انْتَهَى. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَحْوَالِ النَّفْسِ مِنْ سَعَادَتِهَا وَشَقَاوَتِهَا وَظُهُورِ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْآيَةِ، وَتَقْدِيرُهُ لِتُبْعَثُنَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ:
(١) سورة المدثر: ٧٤/ ٥٣- ٥٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute