وَإِنْ جَعَلْتَهَا اسْمًا لِلْقَبَائِلِ فَجَائِزٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِحْلَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِضَمِّهَا، فَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ الْجِهَةُ الَّتِي يُرْحَلُ إِلَيْهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا رِحْلَتَانِ. فَقِيلَ: إِلَى الشَّامِ فِي التِّجَارَةِ وَنَيْلِ الْأَرْبَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَفَرَيْنِ بَيْنَهُمَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ ... سَفَرَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الْأَصْيَافِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِحْلَةٌ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةٌ إِلَى بُصْرَى. وَقَالَ: يَرْحَلُونَ فِي الصَّيْفِ إِلَى الطَّائِفِ حَيْثُ الْمَاءُ وَالظِّلُّ، وَيَرْحَلُونَ فِي الشِّتَاءِ إِلَى مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ وَسَائِرِ أَغْرَاضِهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَرَادَ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَأَفْرَدَ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ، كَقَوْلِهِ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
انْتَهَى، وَهَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ:
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي يُرِيدُ: بَطْنَيِ الْوَادِيَيْنِ، أَنْشَدَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الضَّرُورَةِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: كَانَتْ لَهُمْ أَرْبَعُ رِحَلٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. انْتَهَى، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْإِيلَافِ كَانُوا أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ وَهُمْ: بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ، كَانَ يُؤَلِّفُ مَلِكَ الشَّامِ، أَخَذَ مِنْهُ خَيْلًا، فَأَمِنَ بِهِ فِي تِجَارَتِهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَبْدُ شَمْسٍ يُؤَلِّفُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَالْمُطَّلِبُ إِلَى الْيَمَنِ وَنَوْفَلٌ إِلَى فَارِسَ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ المجيرين، فَتَخْتَلِفُ تَجْرُ قُرَيْشٍ إِلَى الْأَمْصَارِ بِحَبْلِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْإِيلَافُ شِبْهُ الْإِجَارَةِ بِالْخِفَارَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رِحَلٌ أَرْبَعٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَانَتِ التُّجَّارُ فِي خِفَارَةِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ يَمْدَحُهُمْ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ ... هَلَّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنَافِ
الْآخِذُونَ الْعَهْدَ مِنْ آفَاقِهَا ... وَالرَّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَالرَّائِشُونَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ ... وَالْقَائِلُونَ هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ
وَالْخَالِطُونَ غَنِيَّهُمْ لِفَقِيرِهِمْ ... حَتَّى يَصِيرَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِ
فَتَكُونُ رِحْلَةَ هُنَا اسْمَ جِنْسٍ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَلِأَكْثَرَ، وَإِيلَافُهُمْ بَدَلٌ مِنْ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، أَطْلَقَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ وَقَيَّدَ الْبَدَلَ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ رِحْلَةٌ، أَيْ لِأَنْ أَلِفُوا رِحْلَةً تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْإِيلَافِ وَتَذْكِيرًا بِعَظِيمِ النِّعْمَةِ فيه. ذَا الْبَيْتِ
: هُوَ الْكَعْبَةُ، وَتَمَكَّنَ هُنَا هَذَا اللَّفْظُ لِتَقَدُّمِ حِمَايَتِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمِنْ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ الْجُوعِ. كَانُوا قُطَّانًا بِبَلَدٍ