للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ ذَلِكَ غَالِبٌ فِيهِمَا لَا مُتَحَتِّمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ النُّحَاةُ دُخُولَ لَا عَلَى الْمُضَارِعِ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ، وَدُخُولَ مَا عَلَى الْمُضَارِعِ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطَاتِ مِنْ كُتُبِ النَّحْوِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُورِدْ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، إِنَّمَا قَالَ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ وَلَمْ يَقَعِ الْفِعْلُ. وَقَالَ: وَأَمَّا مَا فَهِيَ نَفْيٌ لِقَوْلِهِ هُوَ يَفْعَلُ إِذَا كَانَ فِي حَالِ الْفِعْلِ، فَذَكَرَ الْغَالِبَ فِيهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي قَوْلِهِ وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ: أَيْ وَمَا كُنْتُ قَطُّ عَابِدًا فِيمَا سَلَفَ مَا عَبَدْتُمْ فِيهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ، لِأَنَّ عَابِدًا اسْمُ فَاعِلٍ قَدْ عَمِلَ فيما عَبَدْتُمْ، فَلَا يُفَسَّرُ بِالْمَاضِي، إِنَّمَا يُفَسَّرُ بِالْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ وَلَيْسَ مَذْهَبُهُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مَذْهَبَ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٍ مِنْ جَوَازِ إِعْمَالِهِ مَاضِيًا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ: أَيْ وَمَا عَبَدْتُمْ فِي وَقْتٍ مَا أَنَا عَلَى عِبَادَتِهِ، فَعَابِدُونَ قَدْ أَعْمَلَهُ فِيمَا أَعْبُدُ، فَلَا يُفَسَّرُ بِالْمَاضِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ إِلَى آخِرِهِ، فَسُوءُ أَدَبٍ مِنْهُ عَلَى مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ مُوَحِّدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُنَزِّهًا لَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، مُجْتَنِبًا لِأَصْنَامِهِمْ بِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ، وَيَقِفُ بِمَشَاعِرِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَيُّ عِبَادَةٍ أَعْظَمُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَبْذِ أَصْنَامِهِمْ! وَالْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «١» . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ لِيَعْرِفُونِ. فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْرِفَةَ بِهِ عِبَادَةً.

وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّهُ أَوَّلًا: نَفَى عِبَادَتَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ لَا الْغَالِبُ أَنَّهَا تَنْفِي الْمُسْتَقْبَلَ، قِيلَ: ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نَفْيًا لِلْمُسْتَقْبَلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ نَفْيًا لِلْحَالِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ الْعَامِلَ الْحَقِيقَةُ فِيهِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْحَالِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ نَفْيًا لِلْحَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، فَانْتَظَمَ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْبُدُ مَا يَعْبُدُونَ، لَا حَالًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا، وَهُمْ كَذَلِكَ، إِذْ قَدْ حَتَّمَ اللَّهُ مُوَافَاتَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَلَمَّا قَالَ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، فَأَطْلَقَ مَا عَلَى الْأَصْنَامِ، قَابَلَ الْكَلَامَ بِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَعْبُدُ، وَإِنْ كَانَتْ يُرَادُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ يَسُوغُ فِيهَا مَا لَا يَسُوغُ مَعَ الِانْفِرَادِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: أن ما لا تقع على


(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>