للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَحَلَّ عِبَادَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَكَانُ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَهَّرًا مِنَ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ. وَأَشَارَ بِتَطْهِيرِ الْمَحَلِّ إِلَى تَطْهِيرِ الْحَالِ فِيهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِلَى تَطْهِيرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيَاءِ، بَلْ يُطَهَّرُ بِإِخْلَاصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَنْ طُهِّرَ الْبَيْتُ لِأَجْلِهِ، وَهُمُ الطَّائِفُونَ وَالْعَاكِفُونَ وَالْمُصَلُّونَ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَيْتِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ لَا يَصْلُحُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَمَلِ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْخُصُومَاتِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا هُيِّيءَ لِوُقُوعِ الْعِبَادَاتِ فِيهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ بِجَعْلِ هَذَا الْبَيْتِ مَحَلَّ أَمْنٍ، وَدُعَاءَهُ لَهُمْ بِالْخِصْبِ وَالرِّزْقَ، وَتَخْصِيصَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ هُمَا سَبَبَانِ لِعِمَارَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَقَصْدِ النَّاسِ لَهُ.

ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَتَمْتِيعُهُ قَلِيلٌ وَمَآلُهُ إِلَى النَّارِ، لِيَكُونَ التَّخْوِيفُ حَامِلًا عَلَى التَّقَيُّدِ بِالْإِيمَانِ وَالِانْقِيَادِ لِلطَّاعَاتِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ آمَنَ، بَلْ رِزْقُ اللَّهِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، وَمَا دَعَوَا بِهِ إِذْ ذَاكَ مِنْ طَلَبِ تَقَبُّلِ مَا يَفْعَلَانِهِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالدُّعَاءِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُسْلِمُونَ، وَإِرَاءَةِ الْمَنَاسِكِ وَالتَّوْبَةِ، وَبَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْ أُمَّتِهِ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُطَهِّرُهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْآثَامِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَدْعِيَةِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ الِالْتِبَاسِ بِالْعِبَادَاتِ، وَأَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مَظَنَّةُ إِجَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلْمُلْتَبِسِ بِالطَّاعَةِ، وَلِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ. وَخَتَمَ كُلَّ دُعَاءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ شَيْءٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا كَانَ كُلُّهُ دُعَاءً بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا حَالَةَ بِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ دُعَاؤُهُ بِالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَمَّلَ الْبَيْتَ وَفَرَغَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِبِنَائِهِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ شَرَفَ إِبْرَاهِيمَ وَطَوَاعِيَتُهُ لِرَبِّهِ، وَاخْتِصَاصُهُ فِي زَمَانِهِ بِالْإِمَامَةِ، وَصَيْرُورَتُهُ مُقْتَدًى بِهِ. ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ طَرِيقَتِهِ إِلَّا خَاسِرُ الصَّفْقَةِ، لِأَنَّهُ الْمُصْطَفَى فِي الدُّنْيَا، الصَّالِحُ فِي الْآخِرَةِ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِانْقِيَادِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَوَّلُ قِصَّتِهِ إِتْمَامُهُ مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، وَآخِرُهَا التَّسْلِيمُ لِلَّهِ، وَالِانْقِيَادُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>