للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُرِيدُ: أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ عَنِ الْإِثْبَاتِ يَتَضَمَّنُ نَقِيضَهُ. فَالْمَعْنَى: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ، وَلِذَلِكَ صَلَحَ الْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ بِنِعَمْ وَبِلَا، فَلِذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ: أَرُشْدٌ طِلَابُهَا، أَيْ أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ. وَيَجُوزُ حَذْفُ الثَّوَانِي الْمُقَابِلَاتِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» ، كَيْفَ حَذَفَ وَالْبَرْدَ؟ إِذْ حَضَرَ الْعَامِلُ فِي إِذْ شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الظَّرْفِ، لَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَاضِرِي كَلَامِهِ فِي وَقْتِ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَكَنَّى بِالْمَوْتِ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ نَفْسُهُ لَا يَقُولُ الْمُحْتَضِرُ شَيْئًا، وَمِنْهُ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «٢» ، أَيْ وَيَأْتِيهِ دَوَاعِيهِ وَأَسْبَابُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا الْعُذْرَ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ

وَفِي قَوْلِهِ: حَضَرَ، كِنَايَةٌ غَرِيبَةٌ، إِنَّهُ غَائِبٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَمَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ

فِي الدُّعَاءِ: وَاجْعَلِ الْمَوْتَ خَيْرَ غَائِبٍ نَنْتَظِرُهُ.

وقرىء: حَضِرَ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ، وَأَنَّ مُضَارِعَهَا بِضَمِّ الضَّادِ شَاذٌّ، وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ هُنَا عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاعْتِنَاءِ. إِذْ قالَ لِبَنِيهِ، إِذْ:

بَدَلٌ مِنْ إِذْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ حَضَرَ، فَالْعَامِلُ فِيهِ إِمَّا شُهَدَاءَ الْعَامِلَةُ فِي إِذِ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَإِمَّا شُهَدَاءَ مُكَرَّرَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَدَلَ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ. وَزَعَمَ الْقَفَّالُ أن إذ وَقْتٌ لِلْحُضُورِ، فَالْعَامِلُ فِيهِ حضر، وهو يؤول إِلَى اتِّحَادِ الظَّرْفَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَامِلُهُمَا.

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي مَا: اسْتِفْهَامٌ عَمَّا لَا يَعْقِلُ، وَهُوَ اسْمٌ تَامٌّ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهُ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا مُبْهَمَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يَكُونُ هُنَا يَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ قَدْ عُبِدَ بَنُو آدَمَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَبَعْضُ النُّجُومِ وَالْأَوْثَانُ الْمَنْحُوتَةُ، وَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى تَخْصِيصِ مَا بِغَيْرِ الْعَاقِلِ، فَقِيلَ: هُوَ سُؤَالٌ عَنْ صِفَةِ الْمَعْبُودِ، لِأَنَّ مَا يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الصِّفَاتِ تَقُولُ: مَا زَيْدٌ، أَفَقِيهٌ أَمْ شَاعِرٌ؟ وَقِيلَ: سَأَلَ بِمَا لِأَنَّ الْمَعْبُودَاتِ الْمُتَعَارِفَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ جَمَادَاتٍ، كَالْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْحِجَارَةِ، فَاسْتَفْهَمَ بِمَا الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَمَّا لَا يَعْقِلُ. وَفَهِمَ عَنْهُ بَنُوهُ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّا لَا نَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقِيلَ:

استفهم بما عَنِ الْمَعْبُودِ تَجْرِبَةً لَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ لِئَلَّا يَطْرُقَ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ وَيَنْظُرَ ثُبُوتَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنِ الَّذِي يَعْبُدُونَ، أي


(١) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>