للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُبَالَغَةٌ فِي الشِّقَاقِ الْحَاصِلِ لَهُمْ بِالتَّوَلِّي، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»

، إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ «٢» ، هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: زِيدٌ مُشَاقٌّ لِعَمْرٍو، وَزَيْدٌ ضَالٌّ، وَبَكْرٌ سَفِيهٌ. وَالشِّقَاقُ هُنَا: الْخِلَافُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَدَاوَةُ، أَوِ الْفِرَاقُ، أَوِ الْمُنَازَعَةُ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَوِ الْمُجَادَلَةُ، أَوِ الضَّلَالُ وَالِاخْتِلَافُ، أَوْ خَلْعُ الطَّاعَةِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ أَوِ الْبِعَادُ وَالْفِرَاقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذِهِ تَفَاسِيرُ لِلشِّقَاقِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَدَارَ ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ فِي شِقٍّ وَصَاحِبُهُ فِي شِقٍّ، أَيْ يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْعَدَاوَةِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ شِقَاقٌ، لِأَنَّ الشِّقَاقَ فِي مُخَالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. انْتَهَى.

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشِّقَاقُ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ الْعَظِيمَةُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ لَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَفَاهُ شَرَّهُمْ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، كِفَايَتَهُ وَمَنْعَهُ مِنْهُمْ، وَيَضْمَنُ ذَلِكَ إِظْهَارَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَغَلَبَتَهُ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُشَاقًّا لَكَ غَايَةَ الشِّقَاقِ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِي أَذَاكَ، إِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِظُهُورِكَ عَلَيْهِ وَقُوَّةِ مَنَعَتِكَ مِنْهُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٣» . وَكَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ فِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، وَالنَّفْيِ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَالْجِزْيَةِ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ مُشْعِرٌ بِتَعَقُّبِ الْكِفَايَةِ عَقِيبَ شِقَاقِهِمْ، وَالْمَجِيءُ بِالسِّينِ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الِاسْتِقْبَالِ، إِذِ السِّينُ فِي وَضْعِهَا أَقْرَبُ فِي التَّنْفِيسِ مِنْ سَوْفَ، وَالذَّوَاتُ لَيْسَتِ الْمَكْفِيَّةَ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فَسَيَكْفِيكَ شِقَاقَهُمْ، وَالْمَكْفِيُّ بِهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ بِمَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُشَاقِّينَ، أَوْ بِإِهْلَاكِ أَعْيَانِهِمْ وَإِذْلَالِ بَاقِيهِمْ بِالسَّبْيِ وَالنَّفْيِ وَالْجِزْيَةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، مُنَاسَبَةُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِيمَانِ وَضِدِّهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَعَلَى عَقَائِدَ يَنْشَأُ عَنْهَا تِلْكَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَخْتَتِمَ ذَلِكَ بِهِمَا، أَيْ وَهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَقْوَالُ هِيَ الظَّاهِرَةُ لَنَا الدَّالَّةُ عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ، قُدِّمَتْ صِفَةُ السَّمِيعِ عَلَى الْعَلِيمِ، وَلِأَنَّ الْعَلِيمَ فَاصِلَةٌ أَيْضًا.

وَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ الْوَعِيدَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَيُجَازِيكُمْ بِمَا يَصْدُرُ مِنْكُمْ.


(١) سورة الأعراف: ٧/ ٦٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٦٦.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٦٧. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>