للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاتِّسَاقِهِ. وَانْتِصَابُهَا يَعْنِي: صِبْغَةَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَتْ حَذَامُ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُهُ: فِي الْإِغْرَاءِ عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْإِغْرَاءَ، إِذَا كَانَ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الظَّرْفِ وَلَا الْمَجْرُورِ، وَلِذَلِكَ حِينَ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْإِغْرَاءِ قَدَّرْنَاهُ بِالْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «١» ، وَأَمَّا هُنَا فَقِيلَ: عَابِدُونَ مُوَحِّدُونَ، وَمِنْهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «٢» ، أَيْ لِيُوَحِّدُونِ. وَقِيلَ: مُطِيعُونَ مُتَّبِعُونَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَصِبْغَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ:

خَاضِعُونَ مُسْتَكِينُونَ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.

قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ: سَبَبُ النُّزُولِ، قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: يا مُحَمَّدُ! إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا مِنَّا، وَعَلَى دِينِنَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَوْ كُنْتَ نَبِيًّا، لَكُنْتَ مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا. وَقِيلَ: حَاجُّوا الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَصْحَابُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَتُنَا أَقْدَمُ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، فَأُنْزِلَتْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَتُحَاجُونَنَا بِنُونَيْنِ، إِحْدَاهُمَا نُونُ الرَّفْعِ، وَالْأُخْرَى الضَّمِيرُ؟ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي النُّونِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ حَذْفَ النُّونِ. أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ زَيْدٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَوَجْهُهَا أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى مِثْلَانِ، وَكَانَ قَبْلَ الْأَوَّلِ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ، جَازَ الْإِدْغَامُ كَقَوْلِكَ: هَذِهِ دَارُ رَاشِدٍ، لِأَنَّ الْمَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَكَةِ فِي نَحْوِ: جَعَلَ لَكَ. وَأَمَّا جَوَازُ حَذْفِ النون الأولى، فوجهه مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَنْشَدُوا:

تَرَاهُ كَالثُّغَامِ يَعُلُّ مِسْكًا ... يسوء الفاليات إذا قليني

يريد: قلينني. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلرَّسُولِ، أَوْ لِلسَّامِعِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ مَصْحُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَاوُ ضَمِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ، إِذْ قَالُوا:

لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ. وَالْمُحَاجَّةُ هُنَا: الْمُجَادَلَةُ. وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي شَأْنِ اللَّهِ وَاصْطِفَائِهِ النَّبِيَّ مِنَ الْعَرَبِ دُونَكُمْ، وَتَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْنَا، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنَّبُوَّةِ مِنَّا؟

وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، يَعْنِي أَنَّهُ مَالِكُهُمْ كُلِّهِمْ، فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَلَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَعَ اعْتِرَافِنَا كُلِّنَا أَنَّا مَرْبُوبُونَ لرب


(١) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
(٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>