للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تفسير هذه الجملة عند قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَفَتَطْمَعُونَ «١» وَلَا يَأْتِي إِلَّا عَقِبَ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، فَتَجِيءُ مُتَضَمِّنَةً وَعِيدًا، وَمُعَلِّمَةً أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ أَمْرَهُمْ سُدًى، بَلْ هُوَ مُحَصِّلٌ لِأَعْمَالِهِمْ، مُجَازٍ عَلَيْهَا.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الكلام على شرح هذه الْجُمَلِ، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ إِثْرَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِمَا وَرَدَتِ الْجُمَلُ الْأَوْلَى بِإِثْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ السِّيَاقُ، فَلَا تَكْرَارَ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى وَرَدَتْ إِثْرَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ وَرَدَتْ عَقِبَ أَسْلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ وَالسِّيَاقُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى فَضْلِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ، يُجَازَوْنَ بِمَا كَسَبُوا، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَاسْتُبْعِدَ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ مُصَرِّحٌ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ، فَالتَّكْرَارُ حَسَنٌ لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ وَالسِّيَاقِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ وَصِيَّةً يُوصُونَ بِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمِلَّتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ بَنِيهِ، وَأَنَّ يَعْقُوبَ أَوْصَى بِذَلِكَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ وَصِيَّتِهِ اخْتِيَارَ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ، لِيُسَهِّلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُمْ، وَيَحُضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُؤَالَ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأَجَابُوهُ بِمَا قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ وَمُوَافَقَةِ آبَائِهِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِهِ. وَحِكْمَةُ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ لَمَّا وَصَّاهُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ، اسْتَفْسَرَهُمْ عَمَّا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ، وَهَلْ يَقْبَلُونَ الْوَصِيَّةَ؟ فَأَجَابُوهُ بِقَبُولِهَا وَبِمُوَافَقَةِ مَا أَحَبَّهُ مِنْهُمْ، لِيَسْكُنَ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ خَلَّفَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَصَدَرَ سُؤَالُ يَعْقُوبَ بِتَقْرِيعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا شَهِدُوا وَصِيَّةَ يَعْقُوبَ، إِذْ فَاجَأَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ، فَدَعْوَاهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِمْ بَاطِلَةٌ، إِذْ لَمْ يَحْضُرُوا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ تُنْبِئْهُمْ بِذَلِكَ تَوْرَاتُهُمْ وَلَا إِنْجِيلُهُمْ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ، إِذْ لَمْ يَتَحَصَّلْ لَا عَنْ عِيَانٍ وَلَا عَنْ نَقْلٍ، وَلَا ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يستدل عليها بالعقل.


(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٤- ٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>