للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خِيَارًا مِثْلَ مَا هَدَيْنَاكُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا بِجَعْلِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْغَرِيبِ الَّذِي فِيهِ اخْتِصَاصُكُمْ بِالْهِدَايَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، فَلَا تَقَعُ الْهِدَايَةُ إِلَّا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ خَيْرَ الْقِبَلِ، جَعَلْنَاكُمْ خَيْرَ الْأُمَمِ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا الْكَعْبَةَ وَسَطَ الْأَرْضِ، كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَوْقَ الْأُمَمِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا «١» أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِاصْطِفَاءِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.

وَمَعْنَى وَسَطًا: عُدُولًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهِ عِبَارَةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ الْمَصِيرُ فِي تَفْسِيرِ الوسط إليه. وقيل: خيار، أَوْ قِيلَ: مُتَوَسِّطِينَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفْرِطِ وَالْمُقَصِّرِ، لَمْ يَتَّخِذُوا وَاحِدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَهًا، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، وَلَا قَتَلُوهُ، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ. وَاحْتَجَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَالُوا: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خِيرَتِهِمْ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً.

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ «٢» ، وَفِي شَهَادَتِهِمْ هُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ،

وَهِيَ شَهَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: وَقَدْ طَعَنَ الْقَاضِي فِي الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا ضَعِيفَةً، وَأَظُنُّهُ عَنَى بِالْقَاضِي هُنَا الْقَاضِي عَبْدَ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيَّ، لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ لَا يُنَاسِبُ مَذَاهِبَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا.

واختلف قائلو ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا مَاتَ، كَمَا

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، وَبِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ الرَّسُولُ:

«وَجَبَتْ» ، يَعْنِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مُسْلِمٍ.

وَقِيلَ:

الشَّهَادَةُ الِاحْتِجَاجُ، أَيْ لِتَكُونُوا مُحْتَجِّينَ عَلَى النَّاسِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِتَنْقُلُوا إِلَيْهِمْ مَا عَلِمْتُمُوهُ مِنَ الْوَحْيِ وَالدِّينِ كَمَا نَقَلَهُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، كَقَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «٣» ، أَيْ لِلنُّصُبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَكُونَ إجماعكم حجة،


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>