للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَمَا تَقُولُ: دَخَلَ الْخَاتَمُ فِي يَدِي وَالْخُفُّ فِي رِجْلِي. وَكَقَوْلِهِمْ: عَرَضَ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَأَوْرَدُوا مِمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُ مَقْلُوبُ جُمْلَةٍ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ إِنْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مِنِ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ دَاعِي الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ:

وَمَثَلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا. فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ تَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ، وَلَا بِالْمَنْعُوقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ دَاعِي الْكَافِرِ فِي دُعَائِهِ إِيَّاهُ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهَائِمِ، فِي كَوْنِ الْكَافِرِ لَا يَفْهَمُ مِمَّا يُخَاطِبُهُ بِهِ دَاعِيهِ إِلَّا دَوِيَّ الصَّوْتِ دُونَ إِلْقَاءِ ذِهْنٍ وَلَا فِكْرٍ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ مِنَ النَّاعِقِ بِهَا إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، وَلَا تَفْهَمُ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَا يَسْمَعُ الْأَصَمُّ الْأَصْلَخُ، الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلَامِهِ إِلَّا النِّدَاءَ وَالصَّوْتَ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِلْحُرُوفِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الدَّاعِي وَالْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الْآيَةِ. أَنَّ الْمَعْنَى: مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفَيْنِ: حَذْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ حَذْفُ دَاعِيهِمْ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي، وَحَذْفٌ مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ حَذْفُ الْمَنْعُوقِ بِهِ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ فَشَبَّهَ دَاعِيَ الْكُفَّارِ بِرَاعِي الْغَنَمِ فِي مُخَاطَبَتِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ، وَشَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْغَنَمِ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَسْمَعُونَ مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ إِلَّا أَصْوَاتًا، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا وَرَاءَهَا. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ حَذْفٌ كَثِيرٌ، إِذْ فِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفَيْنِ، إِذِ التَّقْدِيرُ الصِّنَاعِيُّ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَدَاعِيهِمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَذَهَبَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ، وَالْأُسْتَاذُ أبو علي الشلوبين وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَحْسِنُهُ، وَإِنَّهُ مِنْ بَدِيعِ كَلَامِهَا، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ «١» التَّقْدِيرُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَدْخُلُ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ بَيْضَاءُ، فَحَذَفَ تَدْخُلُ لِدَلَالَةِ تَخْرُجْ، وَحَذَفَ وَأَخْرِجْهَا لِدَلَالَةِ وَأَدْخِلْ، قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ


(١) سورة النمل: ٢٧/ ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>