للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُعْظَمَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ. كَمَا نَصَّ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْمُرَادُ حَظْرُ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فِي الصَّيْدِ. وَكَمَا نَصَّ عَلَى تَرْكِ الْبَيْعِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «١» ، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ مَا كَانُوا يَبْتَغُونَ بِهِ مَنَافِعَهُمْ، فَهُوَ أَشْغَلُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا لَهُ ذَكَرَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ دُونَ شَحْمِهِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الشَّحْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَحْمٌ سَمِينٌ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ شَحِيمٌ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُمْ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الشَّحْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ، لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ يُمَازِجُهُ شَيْءٌ آخَرَ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَدْلُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ مَثَلًا رَجُلٌ لَابِنٌ، أَوْ رَجُلٌ عَالِمٌ؟ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ أَوِ الْعِلْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الرَّجُلِ، وَلَا أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ مُجَرَّدًا عَنِ الْوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخُصٌّ ذِكْرُ اللَّحْمِ مِنِ الْخِنْزِيرِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ، ذُكِيَّ أَوْ لَمْ يُذَكَّ، وَلِيَعُمَّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَاكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ وَغَيْرِهَا.

وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّحْمِ لَا يَعُمُّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَاكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَمَا هُنَاكَ مِنْ غُضْرُوفٍ وَغَيْرِهِ، وليس له اسم يخصه. إذا أُطْلِقَ ذَلِكَ الِاسْمُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْآخَرُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ. فَإِذَنْ، تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الْمَجْمُوعُ، لَدَلَّ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَجْمُوعِ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَاوُدَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ؟ إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيِّ، مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ دَاوُدَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِجْمَاعًا. وَقَدِ اعْتَدَّ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمُ الْفَهْمُ التَّامُّ وَالِاجْتِهَادُ، قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَزْمَانٍ، بِخِلَافِ دَاوُدَ، وَنَقَلُوا أَقَاوِيلَهُ فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا نَقَلُوا أَقَاوِيلَ الْأَئِمَّةِ، كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ.

وَدَانَ بِمَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ وَطَرِيقَتِهِ نَاسٌ وَبِلَادٌ وَقُضَاةٌ وَمُلُوكُ الْأَزْمَانِ الطَّوِيلَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي عَصْرِنَا هذا قد خمل هَذَا الْمَذْهَبُ. وَلَمَّا كَانَ اللَّحْمُ يَتَضَمَّنُ عِنْدَ مَالِكٍ الشَّحْمَ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ أَنْ لا يأكل لحما، فأكل شَحْمًا، أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فَقَالَا:

لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، فَأَكَلَ لَحْمًا. وَقَالَ تَعَالَى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «٢» . وَالْإِجْمَاعُ، أَنَّ اللَّحْمَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْيَهُودِ، فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ لَفْظِ الْآخَرِ.


(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ٩.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>