للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُلَابِسًا لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلدَّمِ وَمُطَالِبٌ بِهِ كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا، لِمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهَذَا الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ يُرَادُ بِهِ الدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ رُجِعَ إِلَى أَخْذِ الدِّيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْقِصَاصُ، وَإِمَّا الدِّيَةُ. لِأَنَّ الدِّيَةَ تَضَمَّنَتْ عَافِيًا وَمَعْفُوًّا عَنْهُ، وَلَيْسَ إِلَّا وَلِيَّ الدَّمِ وَالْقَاتِلَ، وَالْعَفْوُ لَا يَتَأَتَى إِلَّا مِنَ الْوَلِيِّ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ. وَعَفَا يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الْجِنَايَةِ، تَقُولُ: عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وَعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ، فَإِذَا عَدَّيْتَ إِلَيْهِمَا مَعًا تَعَدَّتْ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ، وَإِلَى الذَّنْبِ بِعَنْ، تَقُولُ:

عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَحُذِفَ عَنْ جِنَايَتِهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلَا يُفَسَّرُ عُفِيَ بِمَعْنَى تُرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مُعَدًّى إِلَّا بِالْهَمْزَةِ، وَمِنْهُ: «أَعْفُوا اللِّحَى» وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَمَّنَ عَفَى مَعْنَى تَرَكَ وَإِنْ كَانَ الْعَافِي عَنِ الذَّنْبِ تَارِكًا لَهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ، لِأَنَّ التَّضْمِينَ لَا يَنْقَاسُ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُمْ عَفَا أَثَرَهُ إِذَا مَحَاهُ وَأَزَالَهُ، فَهَلَّا جَعَلْتَ مَعْنَاهُ: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: عِبَارَةٌ قِيلَتْ فِي مَكَانِهَا، وَالْعَفْوُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ عِبَارَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ النَّاسِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى أُخْرَى قَلِقَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ مَكَانِهَا، وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هذا العلم يجترىء إِذَا عَضَلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْمُشْكِلِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى اخْتِرَاعِ لُغَةٍ. وَادِّعَاءٍ عَلَى الْعَرَبِ مَا لَا تَعْرِفُ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ يُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ عَفَا يكون بمعنى محافلا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ إِسْنَادُ عَفَى لِمَرْفُوعِهِ إِسْنَادًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَدَّى كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ مَجَازًا وَتَشْبِيهًا لِلْمَصْدَرِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، فَقَدْ يَتَعَادَلُ الْوَجْهَانِ أَعْنِي: كَوْنَ عَفَا اللَّازِمِ لِشُهْرَتِهِ فِي الْجِنَايَاتِ، وَعَفَا الْمُتَعَدِّي لِمَعْنَى مَحَا لِتَعَلُّقِهِ بِمَرْفُوعِهِ تَعَلُّقًا حَقِيقِيًّا.

وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هَذَا الْعِلْمَ إِلَى آخِرِهِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِعْلُ غَيْرِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَذْهَبِهَا لِخَاصَّةِ الْإِنْسَانِ، وَخُصُوصًا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ.

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ تُكْرَهُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>