للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، فَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ، وَكَمْ قَتَلَ مُهَلْهِلٌ بِأَخِيهِ كُلَيْبٍ حَتَّى كَادَ يُفْنِي بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ.

وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ لَا يقتل غير خِلَافَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ:

حَيَاةٌ لِلْقَاتِلِ. وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِارْتِدَاعِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَصَّ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. فَلَا تَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْحَيَاةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ.

وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ، أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ، أَيْ: فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ، وَقِيلَ: الْقَصَصُ: الْقُرْآنُ، أَيْ: لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «١» وَكَقَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «٢» .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقِصَاصِ، أَيْ: أَنَّهُ إِذَا قُصَّ أَثَرُ الْقَاتِلِ قَصَصًا قُتِلَ كَمَا قَتَلَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كَلَامٌ فَصِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ قَتْلٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ، وَمِنْ إِصَابَةِ مَحَزِّ الْبَلَاغَةِ بِتَعْرِيفِ، الْقِصَاصِ، وَتَنْكِيرِ: الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ الْحَاصِلَةُ بِالِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ.

لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَالَتِ الْعَرَبُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْقَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَكَفُّ لِلْقَتْلِ.

وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي كَوْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: تَكْرِيرُ لَفْظِ الْقَتْلِ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا هُوَ قَتْلٌ، وَلَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ. وَقَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَالْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ أَنَّ نَوْعًا مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ سَبَبٌ لِنَوْعٍ مِنْ أنواع


(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>