للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّقْوَى فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ بِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ لَهُ فَضْلُ اخْتِصَاصٍ بِالْأَئِمَّةِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أُولَاهَا مَا سِيقَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقَتْلَ فِي الْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى يَتَنَبَّهَ كُلُّ أَحَدٍ فَيُوصِي مُفَاجَأَةَ الْمَوْتِ، فَيَمُوتَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ: كُتِبَ، أَصْلُهُ: الْعَطْفُ عَلَى. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وكُتِبَ عَلَيْكُمُ وَأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ لِلطُّولِ، بَلْ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ظَاهِرَةُ الِارْتِبَاطِ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَهُوَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ أَيْ: حُضُورُ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ الْمَخُوفَةِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى أَسْبَابِ الْمَوْتِ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «١» وَقَالَ عَنْتَرَةُ.

وَأَنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِ

وَقَالَ جَرِيرٌ.

أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ

وَقَالَ غَيْرُهُ.

وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ: إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ

وَالْخِطَابُ فِي: عَلَيْكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا بِالْإِمْكَانِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّجَوُّزِ فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، وَلَوْ جَرَى نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ: إِذَا حَضَرَكُمُ الْمَوْتُ، لَكِنَّهُ رُوعِيَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومِ فِي: عَلَيْكُمْ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذَ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُظْهِرَ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ، إِذْ كَانَ يَكُونُ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقِيلَ: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ، وَنَظِيرُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي الْعُمُومِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي ... أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ

فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ في رجالك لأنه رعى مَعْنَى الْعُمُومِ، إِذِ الْمَعْنَى وَلَسْتُ بِسَائِلٍ كُلَّ جَارَةٍ مِنْ جَارَاتِ بَيْتِي، فَجَاءَ قَوْلُهُ: أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ، عَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ مُسْتَطْرَفٌ مِنْ علم العربية.


(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٧. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>