الْعُمُومُ، فَكُلُّ مَا أُخِذَ بِهِ الْمَالُ وَمَآلُهُ إِلَى الْإِثْمِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِثْمِ التَّقْصِيرُ فِي الْأَمْرِ قَالَ الشَّاعِرُ:
جُمَالِيَّةٍ تعتلى بِالرِّدَافِ ... إِذَا كَذَّبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا
أَيِ: الْمُقَصِّرَاتُ، ثُمَّ جَعَلَ التَّقْصِيرَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالذَّنْبَ إِثْمًا.
وَالْبَاءُ فِي: بِالْإِثْمِ لِلسَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِثْمِ، وَهُوَ الذَّنْبُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ آثِمُونَ، وَمَا أُعِدَّ لَكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، وَخُصُوصًا حُقُوقَ الْعِبَادِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّ مَا أَقْضِي لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُبِيحُ لِلْخَصْمِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْأَمْوَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَاخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ الْبَاطِنُ خِلَافَهُ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخِ عَقْدٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَالْمَحْكُومُ لَهُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ نَافِذٌ، وَهُوَ كَالْإِنْشَاءِ وَإِنْ كَانُوا شُهُودَ زُورٍ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَنْفَذُ ظَاهِرًا وَلَا يَنْفَذُ بَاطِنًا.
وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ آثِمٌ، وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِأَخْذِ مَالٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخَذُهُ، كَأَنْ يَلْقَى لِأَبِيهِ دَيْنًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَحَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ أَبَاهُ وَهَبَهُ، أَوْ أَنَّ الْمَدِينَ قَضَاهُ، أَوْ أَنَّهُ مُكْرَهٌ فِي الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ بَرَاءَةِ الْمُقِرِّ، وَعَدَمُ إِكْرَاهِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نِدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ تَقْرِيبًا لَهُمْ، وَتَحْرِيكًا لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَأَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَيْنَا كَمَا كُتِبَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا تَأَسِّيًا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ بِمَنْ قَبْلَنَا، فَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَجَاءِ تَقْوَانَا لَهُ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَّلَ هَذَا التَّكْلِيفَ بِأَنْ جَعَلَهُ: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أوّل: يَحْصُرُهَا الْعَدُّ مِنْ قِلَّتِهَا، ثُمَّ خَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِجَوَازِ الْفِطْرِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ وَسَفَرِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ عِدَّتِهَا إِذَا صَحَّ وَأَقَامَ، ثُمَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute