أمن ريحانة الداعي السميع أَيِ الْمُسْمِعِ، وَفَعِيلٌ: بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مَجَازٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ أَفْعَلُ مَفْعَلٌ، فَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْإِفْرَادِ. وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُنَافِقِينَ مَجْمُوعُ الْعَذَابَيْنِ: الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، قِيلَ لِانْخِرَاطِهِمْ مَعَهُمْ وَلِانْتِظَامِهِمْ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ؟ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَصَارَ الْمُنَافِقُونَ أَشُدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، بِالنَّصِّ عَلَى حُصُولِ الْعَذَابَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «١» ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كَيْنُونَةَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِهَؤُلَاءِ سَبَبُهَا كَذِبُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ وما منسوية أَيْ بِكَوْنِهِمْ يَكْذِبُونَ، وَلَا ضَمِيرَ يَعُودُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا حَرْفٌ، خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ كَانَ النَّاقِصَةَ لَا مَصْدَرَ لَهَا، فَمَذْهَبُهُ مَرْدُودٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الْمَجِيءُ بِمَصْدَرِ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْفَظُ بِهِ مَعَهَا، فَلَا يُقَالُ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا كَوْنًا، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَالْعَائِدُ عِنْدَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يُكَذِّبُونَهُ أَوْ يَكْذِبُونَهُ. وَزَعَمَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ كَوْنَ مَا مَوْصُولَةً أَظْهَرُ، قَالَ: لِأَنَّ الْهَاءَ الْمُقَدَّرَةَ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِي دُونَ الْمَصْدَرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ، ثَمَّ هَاءٌ مُقَدَّرَةٌ، بَلْ مَنْ قَرَأَ: يَكْذِبُونَ، بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ، فَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمُ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ فَكَوْنُهُمْ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ فِي أَخْبَارِهِ وَالرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَدَّدُ فِي مَعْنَى الْمُخَفَّفِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالُوا فِي: صَدَقَ صَدَّقَ، وَفِي: بَانَ الشَّيْءُ بَيَّنَ، وَفِي: قَلُصَ الثَّوْبُ قَلَّصَ.
وَالْكَذِبُ لَهُ مَحَامِلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ عَالِمًا بِالْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَكَلَّمُوا عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالَّذِي يُشْبِهُ الْكَذِبَ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا الْحَقُّ، قَالُوا:
وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا. الثَّالِثُ: الْخَطَأُ، كَقَوْلِ عُبَادَةَ فِيمَنْ زَعَمَ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْ أَخْطَأَ. الرَّابِعُ: الْبُطُولُ، كَقَوْلِهِمْ:
كُذِّبَ الرَّجُلُ، أَيْ بَطَلَ عَلَيْهِ أَمَلُهُ وَمَا رَجَا وَقَدَّرَ. الْخَامِسُ: الْإِغْرَاءُ بِلُزُومِ الْمُخَاطَبِ الشَّيْءَ الْمَذْكُورَ، كَقَوْلِهِمْ: كَذَبَ عَلَيْكَ الْعَسَلُ، أَيْ أَكْلُ الْعَسَلِ، وَالْمُغْرَى بِهِ مرفوع بكذب،
(١) سورة النساء: ٤/ ١٤٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute