فَلَا يُقَالُ فِيهَا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا يُقَالُ: فِي الْمُبَاحَاتِ وَالتِّجَارَةِ إِنْ أَوْقَعَتْ نَقْصًا فِي الطَّاعَةِ: لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً، وَإِنْ لَمْ تُوقِعْ نَقْصًا فَالْأَوْلَى تَرَكُهَا، فَهِيَ إِذًا جَارِيَةٌ مَجْرَى الرُّخَصِ.
وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ مِثْلِ: أَنْ تَبْتَغُوا، فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «١» وَ: من وبكم، متعلق: بتبتغوا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، وَتَكُونُ صِفَةً لِفَضْلٍ.
فَتَكُونُ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْضًا، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:
مِنْ فُضُولِ.
فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ الْوُجُوبُ، إِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْحُصُولُ فِي عَرَفَةَ، وَالْوُقُوفُ بِهَا، فَهَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ؟ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ وَالْإِجْمَاعَ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَكُنْ إِيتَاءً بِالْحَجِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شَرْطًا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَقَوْلُهُ: الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، كَلَامٌ مُبْهَمٌ، فَإِنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُودُهَا، أَيْ: وُجُودُ الْإِفَاضَةِ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، فَصَحِيحٌ، وَالْوُجُودُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُوبُهَا بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ:
لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَاتَّخَذَهَا مَسْكَنًا إِلَى أَنْ مَاتَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي وَاجِبٍ إِذَا مَاتَ بِهَا، وَحَجُّهُ تَامٌّ إِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بِالْأَرْكَانِ كُلِّهَا.
وَقَوْلُهُ: وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ، إِلَى آخِرِ الْجُمْلَةِ، مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفَاضَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ مَنَعْنَا ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَ: إِذَا، لَا تَدُلُّ عَلَى تُعَيُّنِ زَمَانٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى تَيَقُّنِ الْوُجُودِ أَوْ رُجْحَانِهِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ: مَتَى أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ الَّذِي تَعْتَقِبُهُ الْإِفَاضَةُ كَانَ مُجْزِيًا.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٥٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute