للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَقْدِيرُهُ: مِنْ ذَنْبٍ، وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ إِلَى أَنَّ: اسْتَغْفَرَ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ صَرِيحَيْنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمُ: اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنَ الذَّنْبِ، إِنَّمَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: تُبْتُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّنْبِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَنَقْلِهِ عَنِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَحُذِفَ هُنَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْعِلْمِ بِهِ، ولم يجىء فِي الْقُرْآنِ مُثْبَتًا، لَا مَجْرُورًا بِمِنْ، وَلَا مَنْصُوبًا، بِخِلَافِ: غَفَرَ، فَإِنَّهُ تَارَةً جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَذْكُورًا مَفْعُولُهُ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ «١» وَتَارَةً مَحْذُوفًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَجَاءَ: اسْتَغْفَرَ، أَيْضًا مُعَدًّى بِاللَّامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ «٢» وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «٣» وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ، وَاللَّهَ أَعْلَمُ، لَامُ الْعِلَّةِ، وَأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، كَاسْتَوْهَبَ وَاسْتَطْعَمَ وَاسْتَعَانَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «٤» .

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا كَالسَّبَبِ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرُ الْغُفْرَانِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَكْثَرُ بِنَاءِ: فَعُولٍ، مِنْ: فَعَلَ، نَحْوَ:

غَفُورٍ، وَصَفُوحٍ، وَصَبُورٍ، وَشَكُورٍ، وَضَرُوبٍ، وَقَتُولٍ، وَتَرُوكٍ، وَهَجُومٍ، وَعَلُوكٍ، وَأَكْثَرُ بِنَاءِ: فَعِيلٍ، مِنْ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ نَحْوَ: رَحِيمٍ، وَعَلِيمٍ، وَحَفِيظٍ، وَسَمِيعٍ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ.

قَالُوا: رَقَبَ فَهُوَ رَقِيبٌ، وَقَدَرَ فَهُوَ قَدِيرٌ، وَجَهِلَ فَهُوَ جَهُولٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْجُمَلِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ يُعَادُ بِلَفْظِهِ بَعْدَ: إِنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُطْلَقَ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمَوْعُودَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْمَوْسِمِ تَفَاخَرُوا بِآبَائِهِمْ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَنْحَرُ الجزور، ويفك العاني، ويجر النَّوَاصِيَ، وَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا إِذَا حَدَّثُوا أَقْسَمُوا بِالْآبَاءِ، فيقولون. وأبيك، فنزلت.


(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٥.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٥.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ٥٥ ومحمد: ٤٧/ ١٩.
(٤) سورة الفاتحة: ١/ ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>