وهي يومئذٍ صُلْحٌ، وأهلُها يهودٌ، فتَفَرَّقَا لحاجتِهِما، فأتى مُحَيِّصَةُ إلى عبدِ اللهِ بنِ سهلٍ وهو يَتَشَحَّطُ في دمِه قتيلًا، فدَفَنَه ثمَّ قَدِمَ المدينةَ، فانطلَقَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ سهلٍ ومُحَيِّصَةُ وحُوَيِّصَةُ ابنا مسعودٍ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عبدُ الرَّحمنِ يَتكلَّمُ فقال صلى الله عليه وسلم:«كَبِّرْ كَبِّرْ»، وهو أَحْدَثُ القومِ فَسَكَتَ فتكلَّما فقال صلى الله عليه وسلم:«تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ»، قالوا: وكيف نحلِفُ ولم نَشْهَدْ ولم نَرَ؟! قال صلى الله عليه وسلم:«فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا»، فقالوا: كيفَ نَأْخُذُ أيمانَ قومٍ كفَّارٍ؟ فعَقَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من عندِه (١).
قال أبو شجاع رحمه الله:«وَإِذَا اقْتَرَنَ بِدَعْوَى الدَّمِ لَوْثٌ يَقَعُ بِهِ فِي النَّفْسِ صِدْقُ الْمُدَّعِي حَلَفَ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَوْثٌ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»، إذا اقْتَرَنَ بدعوى القتلِ عندَ الحاكمِ لوْثٌ -والمرادُ به قرينةٌ حاليَّةٌ أو
(١) رواه البخاري (٣٠٠٢)، ومسلم (١٦٦٩)، وقولُه: «يَتَشَحَّطُ»؛ أيْ: يَتَمَرَّغُ ويَضْطَرِبُ، وقولُه: «فذهبَ عبدُ الرَّحمنِ ليتكلَّمَ»؛ لأنَّه أخو المقتولِ، ومحيِّصةُ وحويِّصةُ أولادُ عمِّه، وهما أكبرُ سنًّا منه، فلمَّا أرادَ عبدُ الرَّحمنِ أن يَتَكَلَّمَ، قال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَبِّرْ كَبِّرْ»؛ أيْ: ليتكلَّمْ من هو أكبرُ منك، وحقيقةُ الدَّعوى إنَّما هي لأخيه عبدِ الرَّحمنِ، ولا حقَّ فيها لابنَيْ عمِّه، وإنَّما أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَتكلَّمَ الأكبرُ وهو حويِّصةُ؛ لأنَّه لم يكنِ المرادُ بكلامِه حقيقةَ الدَّعوى، بل سماعَ صورةِ القصَّةِ، وكيف جرت، فإذا أرادَ حقيقةَ الدَّعوى تَكَلَّمَ صاحبُها، وقولُه صلى الله عليه وسلم: «وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ»؛ أي: يَثْبُتُ حقُّكم على من حَلَفْتُم عليه، وقولُه صلى الله عليه وسلم: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا»؛ أيْ: يخلِّصونَكم من اليمينِ؛ بأن يحلِفوا، فإذا حَلَفوا انتهت الخصومةُ ولم يَثْبُتْ عليهم شيءٌ، وقولُه: «فَعَقَلَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من عندِه»؛ أي: أعطى عَقْلَه، وهو دِيَتُه، كما جاءَ في الرِّوايةِ الأخرى: «فودَاهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من قِبَلِهِ كراهةَ إبطالِ دَمِه».