للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عرفوا تلك الكلمة العليا حق المعرفة، من يلتفتون إلى الأحجار، وإن كانت ذات تاريخ مثل هذه الصخرة، بعد ما خاطب الفاروق الحجر الأسود بِما خاطبه به يوم استلمه: «إنك لا تنفع ولا تضر»، وبعد أن استأصل الشجرة التي كانت تَحتها بيعة الرضوان، فاستأصل بذلك ما عسى أن يكون باقيا في نفوس من لَم ينسوا بعد (ذات أنواط).

أتم العصامي إدريس (١٧٢هـ) ما كان قبل مؤسسا (٦٢هـ) ثم في (٨٧هـ) بأيدي عقبة وابن نصير، فبث التعاليم، ونشر بِحسب الإمكان العلم العربي، فاستقبل به المغرب عهدا جديدا، لَم تقدر يد الشَّمَّاخ (١)، ولا حيلة البرمكي، أن تزعزعا أركانه، فإن الذين تلقوا شابا، لَم يسلخ إلا نَحو خَمسة وعشرين ربيعا، وليس معه إلا عبد واحد ثم رفعوه على العرش برضى منهم، ثم ناولوه الصولَجان، ثم وقفوا بين يديه مصطفين ينتظرون أوامره، لينفذوها في أنفسهم وفي أموالِهم، أولئك قوم ما أقدموا على ما أقدموا عليه، حتى عرفوا ما يصنعون، وقد خالطت التعاليم الجديدة بشاشة نفوسهم، وملأت أعمال قلوبِهم، فرموا العصبية الجنسية ظهريا، فاستقبلوا المنفعة المجسمة من أعمال أبناء تِهامة ونَجد بكلتا اليدين، فيرون أتم الشرف في أن يكونوا مرءوسين لأحد أولئك الأبناء، رغما عن كل الدسائس والمكر والخديعة التي تنالَهم بواسطة ابن الأغلب، القاضي بمكره على أميرهم ثم على مولاه الأمين، فلم يصعب عليهم أن ينتظروا وراء أميرهم المرموس نسمة أخرى مباركة من نسله، يسير بِها ذلك العهد الجديد سيره الطبيعي إلى المدى الذي هو لا بد مدركه، وإن كره البغداديون.

تأسست عاصمة الدين والعلم والحضارة (فاس الخالدة) (١٩٢هـ) فصارت منبع العلم، وميزان الدين، ومقياس الشعور، والحضارة في المغرب فكانت تأخذ من القيروان ثم من قرطبة من تأخذ، ثم تمد إلى القرى والقبائل الجبلية والصحراوية، من روحها وحضارتها وعلمها الجم ما ينمو مع الأيام، فلَم يَمض إلا زمن ليس بالكثير، بِحسب بيئة ذلك العصر، حتى رأينا المغرب يكتسي حلة عربية، وقد تأصلت فيه العلوم العربية، وتأسست لَها معاهد. وقد كانت (سبتة) تضاهي فاسا


(١) اسم الذي سم إدريس بن عبد الله برأي يحيا البرمكي وزير هارون الرشيد.
(٢) في كتاب (المرْقى في أخبار سيدي محمد الشرقي) أن في تادلة زوايا علمية في القرن الرابع، والكتاب مخطوط.

<<  <   >  >>