للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفنون، لا بد له وراء ذلك من سليقة روحية تُمازج صاحبها، فيمكن له أن يتذوق كلام البيانيين، وأن يستروح روائح نكهتهم الأرجة، ونشك في أن آثار العجمة كانت تزول عن غالبهم، حتى تلطف أذواقهم لِهذه اللطائف، فقد عرفنا منهم اليوم من هو نَحوي ماهر لغوي متمكن وقد قرأ التلخيص وتفهمه، ثُم إنه مع ذلك بَينه وبين تلك الروح ما بين السماء والأرض، ولكن رغم كل ذلك نَجد من بينهم من يظهر أنه بياني حقّا، ولا أدل على ذلك مثل من نراهم أدباء، رقاق الشعور، دقيقي الملاحظة، وأيّا كان فإن البيان كعلم من العلوم يتدارسونه، فمنهم من يتصف به، ومنهم من يتخذه كفن فقط، يستكثر به معلوماته، إلى أن جاء الجيل الذي قبل هذا فزعم بعضهم (١) أن غير الفقه والنحو ليس من بارود البلد -على حسب تعبيره- فيلقى غالبا تدريسه ظهريا، ولكن وجدنا آخرين لَم يلقوه ظهريا، كابن مسعود الذي له من بنات قلمه في البيان تآليف، وكالإلغيين الذين نرى بينهم من يتخلق به ذوقا ودراسة (٢) كما يظهر من أدبياتِهم، وكالأدوزيين الذين كانت أيضا من قلم قطبهم في الجيل قبل هذا مُحمد بن العربي آثار فيه حسنة، متنا وشرحا، وقد كان هذا الفن مزدهرا في العصر الإيليغي (٣) فرأينا فصاحة وذلاقة لسان كما سيلمس مِمَّا سيأتي عن الأدب السوسي عن قريب.

والْمُحصل أن البيان كان يدرس في (التلخيص) حتى رأينا بعضهم ينظمه، وفي (الجوهر المكنون) ولأبي سالِم الإجراري كتابة عليه، كما تدرس الاستعارة الكيرانية التي كتب عليها العربي الأدوزي، وابن المحفوظ السملالي، كما كان لابن مسعود مؤلف فيه شرحه الحسن الإجراري، ولابن العربي الأدوزي مؤلف شرحه في علم البديع.

نعم تقلص التوسع في درس هذا الفن تقلصا ظاهرا منذ مفتتح القرن الثالث عشر، حتى لا يذكر إلا في مدارس معدودة ذكرا قليلا، كالبونعمانية، والبوعبدلية والإلغية والأدوزية والجشتمية وتارودانت، وقليل


(١) سيدي مسعود المعدري.
(٢) في رحلة محمد يحيا الولاتي أنه وجد الإلغيين يتعاطون البيان تعاطيًا ما، وذلك سنة ١٣١٣هـ، وهي مخطوطة في خزانة أخينا سيدي عبد السلام ابن سودة.
(٣) يجد القارئ إلغ (بكسر الهمزة وسكون اللام) وإيليغ (بمد الهمزة واللام بيائين) فالأول قرية اشتهرت منذ أواخر القرن الماضي بعلومها وآداها ومنها جامع هذا الكتاب تبعد عن تزنيت شرقًا بـ ٨٥ كيلومترًا، والثانية كانت مدينة لمملكة أولاد الشيخ سيدي أحمد بن موسى في القرن الحادي عشر ثم هدمها مولاي رشيد العلوي، وتبعد عن تزنيت بنحو ٤٠ كيلومترًا، وفي أخبار رؤسائها أولاد سيدي أحمد ابن موسى جمع كتاب (إيليغ قديمًا وحديثًا).

<<  <   >  >>