العادية عندهم يقينية. ومهما يكن في استدلالهم من الوهن، فيكفي أنهم معترفون بامتناع أن يقع من الله تعالى أو من رسوله فيما يخبر به عنه كذبٌ، ويكفر من يقول خلاف ذلك. ولا ريب أنهم إذا عرفوا بطلان استدلالهم، ولم يبق إلا أن يقولوا بالوجوب والحسن والقبح العقليين أو يكفروا، إنما يختارون الأول. فإن فُرِضَ أن بعض أتباعهم اختار الكفر، فإلى حيثُ ألقَتْ رحلَها أمُّ قَشْعَمِ (١)!
فإن قيل: يؤخذَ من كلام الرازي أنه يزعم أن احتمال الامتناع العقلي قرينةٌ تُدافع ظاهرَ الخبر، فلا يلزم من القول ببطلان تلك المعاني أو بعضها تكذيبُ النصوص، ولا من القول باحتمال البطلان القولُ باحتمال الكذب.
قلت: هذا زعم باطل، كما مرَّ في الكلام على المقصد الأول من مقاصد ابن سينا. وإنما الذي يصح أن يكون قرينةً هو الامتناع العقلي نفسه إذا كان من شأنه أن لا يخفى على المخاطب. فأما احتماله فقط، فإنما هو كاحتمال عدم وقوع ما دل الخبر على وقوعه. وذلك كما لو كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمى صائم في رمضان، وهو في عريش بعيد عن البيوت، فلم يدر أقد غربت الشمس أم لا؟ فبينا هو كذلك إذ مرَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال للأعمى: قد غربت الشمس وصلَّينا المغرب. فهل للأعمى أن يقول في نفسه: لو كنتُ بصيرًا، وأخبرني النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا الخبر، وأنا أشاهد الشمس لم تغرب، لكان [٢/ ٣١٨] ذلك قرينة على أن المراد بالخبر غير ظاهره، كأن يكون عنى: قد غربت أمس، أو قد قاربت الغروب؛ فعليَّ الآن أن لا آخذ بظاهر الخبر، لأن احتمال عدم الغروب اليوم قرينة؟
(١) شطر بيت من معلقة زهير، وصدره: فشَدُّوا ولم تَفزَعْ بيوتٌ كثيرةٌ. وقد سبق التمثُّل به (ص ٣٠٦).