ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ كَانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عنَاقًا ... ومَا هِيَ وَيْبَ غيرِكِ بالعْنَاقِ
يَعْنِي: حَسِبْتُ بغامَ رَاحِلَتِي صَوْتَ عِنَاقٍ، فَحَذَفَ الصَّوْتَ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِالعناقِ، فَإِنَّ العَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مَفْهُومًا مُرَادُ المتَكَلِّمُ مِنْهُمْ بِهِ مِنَ الكَلَامِ. فَأَمَّا فِيمَا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ إِلَّا بِظُهُورِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ المتَكَلِّمِ إِلَّا ببَيَانِهِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْذِفُ ذَلِكَ؛ وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ قُوْلِهِ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، بَلِ الأَدِلَّةُ الوَاضِحَةُ، وَالأَخْبَارُ المتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّ اللَّه أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا البُرَاقُ؛ وَلَوْ كَانَ الإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى البُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الأَجْسَامَ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا أَسْرَى رَوحَهُ رَأَى فِي المنَامِ أَنَّهُ أَسْرَى بِجَسَدِهِ عَلَى البُرَاقِ، فَيُكَذِّبُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الأَخْبَارِ الَّتِي رُويَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنَّ جَبْرَائِيلَ حَمَلَهُ عَلَى البُرَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَنَامًا عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا القَوْلِ، وَلَمْ تَكُنِ الرُّوحُ عِنْدَهُ مِمَّا تَرْكَبُ الدَّوابَّ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى البُرَاقِ جِسْمُ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَم يَكُنِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى قَوْلِهِ حُمِلَ عَلَى البُرَاقِ لَا جِسْمُهِ، وَلَا شَيءٌ مِنْهُ، وَصَارَ الأَمْرُ عِنْدَهُ كَبَعْضِ أحْلَامِ النَّائِمِينَ، وَذَلِكَ دَفْعٌ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا تَتَابَعَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَجَاءَتْ بِهِ الآثَارُ عَنِ الأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (٤)
قَالَ ابْنُ كثِيرٍ فِي "تَفْسِيرِ القُرْآنِ العَظِيمِ" بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَاتِ الإِسْرَاءِ:
وَإِذَا حَصَلَ الوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأَحِادِيثِ صَحِيحِهَا وَحَسَنِهَا وَضَعِيفِهَا، يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ
(٤) "تفسير الطبري" (٩/ ١٦ - ١٧).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute