فقال: هذا ألأم بيت قالته العرب. قال أبو هلال رحمه الله: النزوع ههنا ردئ والجيد النزاع، وإنما جعل أبو دلف هذا البيت الأم بيت لأنه يدل على قلة رعاية وشدة قساوة وحنين الرجل إلى أوطانه منقبة من علامات الرشد لما فيه من الدلائل على كرم الطينة وتمام العقل. وقالت الحكماء: حنين الرجل إلى وطنه من علامات الرشد. وقال بزرجمهر: من أمارات العاقل بره بإخوانه وحنينه إلى أوطانه ومداراته لأهل زمانه. وقال أعرابي: لا تشك بلداً فيه قبائلك ولا تجف أرضاً فيها قوابلك. وقالت العرب: أكرم الخيل أشدها خوفا من السوط وأكيس الصبيان أشدهم بغضاً للمكتب وأكرم الصفايا أشدها حنيناً إلى أوطانها وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمهاتها وأكرم الناس آلفهم للناس. وقد بين الله تعالى فضل الوطن وكلف النفوس به في قوله تعالى {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم} فجعل خروجهم من ديارهم كفؤ قتلهم لأتفسهم ومنه قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} وقول تعالى: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا} فجعل إخراجه إياهم من ديارهم بدلاً من العذاب المستأصل لهم لشبهه به عندهم. وقال بعض الحكماء: الخروج من الوطن أحد السبابين والجلاء أحد القتلين. وقال يحيى بن طالب:
(إذا إرتجلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاني الهوى وارتاح قلبي إلى الذكرِ)
(يقولونَ إنَّ الهجرَ يشفي من الهوى ... وما ازددتُ إلا ضعف ما بي على الهجرِ)
وكان كثيرٌ من العرب ممن يعتزي إلى فضل كرم لا ينتجعون وكذلك كانت قريش. وقال الحارث بن ظالم:
(رفعتُ الرُّمح إذ قالوا قُريشٌ ... وشبهت الشمائل والقبابا)