خلقه إلى نفسه تكريماً لآدم وإن كان خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، المساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} ؟ أي استكبرتَ الآن عن السجود أم كنت قديماً من المتكبرين على ربك؟ وهذا على وجهة التوبيخ له لاستنكافه عن السجود {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} أي قال اللعينُ أنا خير من آدم وأشرف وأفضل {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} أي لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خيرٌ من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرج من الجنة فإِنك لعين مطرود من كل خيرٍ وكرامة {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} أي وأنت مبعدٌ عن رحمتي إلى يوم الجزاء والعقوبة ثم تلقى ما هو أفضع وأشنع من اللعنة {قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي أخرني وأمهلني إلى اليوم الذي تبعث فيه الخلائق من القبور قال أبو السعود: أراد بذلك أن يجد فسحةً لإِغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موتَ بعد البعث فأجابه الله بأنه مؤخر إلى وقت النفخة الأولى لا إلى وقت العبث الذي طلبه {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} أي إِنك من الممهلين إلى وقت النفخة الأولى حيث يموت الناس وتنتهي مهمتك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أي قال اللعين: أُقسم بعزتك لأُضلنَّ بني آدم أجمعين، إلا الذين أخلصتهم لعبادتك وعصمتهم مني {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي قال تعالى أقسم بالحقِّ ولا أقول إلا الحقَّ لأملأن جنهم منك ومن أتباعك قال السُّدي: هو قسم أقسم الله به، وجمله «والحقَّ أقول» اعتراضية لتأكيد القسم {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} أي قل لهم يا محمد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، ولست من الذين يتصنعون ويتحليون حتى انتحل النبوة وأتقوَّل القرآن {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي ما هاذ القرآن إلا عظة وذكرى للإٍِنس والجن والعقلاء {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} أي لتعملنَّ خبره وصدقة عن قريب، وهذا وعيدٌ وتهديد قال الحسن البصري: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار}[ص: ٢٨] وهذا من ألطف أنواع البديع.
٢ - الكناية {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق}[ص: ٣٣] كنَّى عن العقر والذبح بالمسح وهي كناية بليغة.
٣ - الطباق بين
{فامنن أَوْ أَمْسِكْ}[ص: ٣٩] لأنها بمعنى أعط من شئت، وامنع من شئت.
٤ - مراعاة الأدب {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان}[ص: ٤١] أسند الضرر إلى الشيطان أدباً، والخير والشر بيد الله تعالى.
٥ - الاستعارة التصريحية {أُوْلِي الأيدي والأبصار}[ص: ٤٥] استعار الأيدي للقوة في العبادة والأبصار للبصيرة في الدين.