" ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمالَ فيهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسرى إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة أي (الأسبان) ، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحْوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يَسْتَشْعِر من ذلك الناظرُ بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله" اهـ.
وصدق ابن خلدون رحمه الله، فلقد توقع استيلاء الإفرنج على الأندلس الإسلامية، وخروج المسلمين منها قبل أن يقع ذلك بنحو مئتي سنة، ولم يكن له دليل على ذلك إِلا مشاهدته تشبه المسلمين بالأعداء في ملابسهم وشاراتهم وعاداتهم وأحوالهم.
إن الاعتزاز بالإسلام، والفخر بأحكامه الإلهية، والاستعلاء بها على كل ما خالفها من نظم ومناهج، هو مفتاح عودتنا إلى الإسلام، وعودة الإسلام إلى حياتنا.
"الإسلام يَعلُو، ولَا يُعلى"(٤٠) :
وتأمل مَعي هذه القصة التي رواها الحاكم من طريق ابن شهاب قال:
(٤٠) أخرجه الدارقطني في " سننه" (٣٩٥) ، والبيهقي (٦/٢٠٥) ، عن حشرج بن عبد الله بن حشرج حدثني أبي عن جدي عن عائذ بن عمرو المزني أنه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، فقالوا: "هذا أبو سفيان، وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عائذ بن عمرو، وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو، ولا يعلَى"، وحسنه الحافظ في "الفتح" (٣/٢٢٠) ط. السلفية، وقال: (وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيرًا في الفضل، لما يفيده من الاهتمام) اهـ، وقد أراد صلى الله عليه وسلم هنا أن يعلمهم البداءة بذكر المسلم، وانظر: "إرواء الغليل" (٥/١٠٦ - ١٠٩) ، "جامع الأصول" (٩/ ٦٠٤) .