للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ (١) فَكُلُّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ بَعْضُهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ جِهَتِهَا، وَبَعْضُهُمْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَغْلَطُ، فَيَظُنُّ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ أَنَّهَا جِهَتُهَا، وَلَا يَكُونُ مُصِيبًا فِي ذَلِكَ. لَكِنْ هُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، فَعَجْزُهُ عَنِ الْعِلْمِ بِهَا كَعَجْزِهِ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا [كَالْمُقَيَّدِ وَالْخَائِفِ وَالْمَحْبُوسِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا] (٢) .

وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَنْ عَصَاهُ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذَا وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ، بِخِلَافِ الْجَهْمِيَّةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْسِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ الْعَقْلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: ١٥] وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا فِي نَفْيِ الْعَذَابِ مُطْلَقًا إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، فَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: يُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِ رَسُولًا لِأَنَّهُ فَعَلَ الْقَبَائِحَ الْعَقْلِيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ قَبِيحًا قَطُّ كَالْأَطْفَالِ.

وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى:


(١) فِي السَّفَرِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(٢) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

<<  <  ج: ص:  >  >>