للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنُّفُوسَ وَالْعُقُولَ، فَهُوَ يَدَّعِي وُجُودَ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ بِحَالٍ.

فَإِذَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْقَضَايَا الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي تُحْكَمُ بِهَا الْفِطْرَةُ كَمَا تُحْكَمُ بِسَائِرِ الْقَضَايَا الْفِطْرِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حُكْمُ الْوَهْمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، فَلَا يُقْبَلُ ; لِأَنَّ الْوَهْمَ إِنَّمَا يُدْرِكُ مَا فِي الْمَحْسُوسِ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: إِنَّمَا يَثْبُتُ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى وَيُحَسَّ بِهِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ إِذَا ثَبَتَ وُجُودُ مَوْجُودٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى وَيُحَسَّ بِهِ، وَأَنْتَ لَمْ تُثْبِتْ هَذَا الْمَوْجُودَ، إِلَّا بِدَعْوَاكَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ، وَلَمْ تُثْبِتْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ بَاطِلٌ (١) إِلَّا بِدَعْوَاكَ وُجُودَ هَذَا الْمَوْجُودِ، فَصَارَ حَقِيقَةَ قَوْلِكَ دَعْوًى مُجَرَّدَةً بِلَا دَلِيلٍ.

فَإِذَا ثَبَتَ امْتِنَاعُ رُؤْيَتِهِ بِإِبْطَالِ هَذَا الْحُكْمِ، كَانَ هَذَا دَوْرًا مُمْتَنِعًا، وَكُنْتَ قَدْ جَعَلْتَ الشَّيْءَ مُقَدِّمَةً فِي إِثْبَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَكَ: لَمْ تُثْبِتْ إِمْكَانَ وُجُودِ غَيْرِ مَحْسُوسٍ إِنْ لَمْ تُثْبِتْ بُطْلَانَ هَذَا الْحُكْمِ، وَلَا تُثْبِتُ بُطْلَانَهُ إِنْ لَمْ تُثْبِتْ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَلَا الْإِحْسَاسُ بِهِ.

فَإِذَا قُلْتَ: الْوَهْمُ يُسَلِّمُ (٢) مُقَدِّمَاتٍ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ هَذَا، قِيلَ لَكَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ مُقَدِّمَةً مُسْتَلْزَمَةً لِهَذَا أَصْلًا، بَلْ جَمِيعُ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ثُبُوتُ إِمْكَانِ هَذَا، وَإِمْكَانُ وُجُودِ مَا لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَلَا يُشَارُ إِلَيْهِ، مُقَدِّمَاتٌ مُتَنَازَعٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، لَيْسَ فِيهَا مُقْدِمَةٌ وَاحِدَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً أَوْ حِسِّيَّةً يُسَلِّمُهَا الْوَهْمُ.


(١) ن، م: وَلَمْ يُثْبَتْ بِهِ بَاطِلٌ.
(٢) أ: يَسْتَلْزِمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>