فإن قلت فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله
فأقول إن الواجب قِسْمَانِ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ وَوَاجِبٌ بِالْمُرُوءَةِ وَالْعَادَةِ
وَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ وَلَا وَاجِبَ الْمُرُوءَةِ فَإِنْ مَنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهُوَ بَخِيلٌ وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ أَبْخَلُ كَالَّذِي يَمْنَعُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَيَمْنَعُ عِيَالَهُ وَأَهْلَهُ النَّفَقَةَ أَوْ يُؤَدِّيهَا وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ بخيل بالطبع وإنما يتسخى بالتكلف أَوِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ وَلَا يَطِيبُ قَلْبُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَطْيَبِ مَالِهِ أو من وسطه فهذا كله بخل
وأما واجب المروءة فهو تَرْكُ الْمُضَايَقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ وَاسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ
فَمَنْ كَثُرَ مَالُهُ اسْتُقْبِحَ مِنْهُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْفَقِيرِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الرَّجُلِ المضايقة مع أهله وأقاربه ومماليكه ما لا يستقبح مع الْأَجَانِبِ وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الْجَارِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مع الْبَعِيدِ وَيُسْتَقْبَحُ فِي الضِّيَافَةِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ مَا لا يستقبح في المعاملة فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة
وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي
وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير
فَالْبَخِيلُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ إِمَّا بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَإِمَّا بِحُكْمِ المروءة وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره
ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال فمانع الزكاة والنفقة بخيل
وصيانة المروءة أهم من حفظ المال والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل
ثم تبقى درجة أخرى وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها
ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقدار ماله وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه
فمن أَدَّى وَاجِبَ الشَّرْعِ وَوَاجِبَ الْمُرُوءَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْبُخْلِ
نَعَمْ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ مَا لَمْ يَبْذُلْ زِيَادَةً على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير
ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض فَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ وَرَاءَ مَا تُوجِبُهُ الْعَادَةُ وَالْمُرُوءَةُ هُوَ الْجُودُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَنْ طيب نفس ولا يكون طَمَعٍ وَرَجَاءِ خِدْمَةٍ أَوْ مُكَافَأَةٍ أَوْ شُكْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَإِنَّ مَنْ طَمِعَ فِي الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَهُوَ بَيَّاعٌ وَلَيْسَ بِجَوَّادٍ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه والجود هو بذل الشيء من غير عوض
هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا