إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها (١) وهذا لو نقل عن غيره لجعل مذهباً فكيف لا يتمسك به وقال عبد الواحد بن زيد أجمعت العلماء على أنه لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ منها فجعله إجماعاً وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى
والحق الرجوع إلى أدلة الشرع والأخبار والآثار ظاهرة في هذا الشرط إلا أن مقام الفتوى في التكليف الظاهر يتقدر بقدر قصور الخلق
فلا يمكن أن يشترط على الناس إحضار القلب في جميع الصلاة فإن ذلك يعجز عنه كل البشر إلا الأقلين وإذا لم يمكن اشتراط الاستيعاب للضرورة فلا مرد له إلا أن يشترط منه ما يطلق عليه الاسم ولو في اللحظة الواحدة وأولى اللحظات به لحظة التكبير فاقتصرنا على التكليف بذلك
ونحن مع ذلك نرجو أن لا يكون حال الغافل في جميع صلاته مثل حال التارك بالكلية
فإنه على الجملة أقدم على العمل ظاهراً وأحضر القلب لحظة
وكيف لا والذي صلى مع الحدث ناسياً صلاته باطلة عند الله تعالى ولكن له أجر ما يحسب فعله وعلى قدر قصوره وعذره ومع هذا الرجاء فيخشى أن يكون حاله أشد من حال التارك وكيف لا والذي يحضر الخدمة ويتهاون بالحضرة ويتكلم بكلام الغافل المستحقر أشد حالاً من الذي يعرض عن الخدمة وإذا تعارض أسباب الخوف والرجاء وصار الأمر مخطرا في نفسه فإليك الخيرة بعده في الاحتياط والتساهل
ومع هذا فلا مطمع في مخالفة الفقهاء فيما أفتوا به من الصحة مع الغفلة فإن ذلك من ضرورة الفتوى كما سبق التنبيه عليه وَمَنْ عَرَفَ سِرَّ الصَّلَاةِ عَلِمَ أَنَّ الْغَفْلَةَ تضادها
ولكن قد ذكرنا في باب الفرق بين العلم الباطن والظاهر في كتاب قواعد العقائد أن قصور الخلق أحد الأسباب المانعة عن التصريح بكل ما ينكشف من أسرار الشرع
فلنقتصر على هذا القدر من البحث فإن فيه مقنعاً للمريد الطالب لطريق الآخرة
وأما المجادل المشغب فلسنا نقصد مخاطبته الآن وحاصل الكلام أن حضور القلب هو روح الصلاة وأن أقل ما يبقى به رمق الروح الحضور عند التكبير
فالنقصان منه هلاك وبقدر الزيادة عليه تنبسط الروح في أجزاء الصلاة
وكم من حي لا حراك به قريب من ميت فصلاة الغافل في جميعها إلا عند التكبير كمثل حي لا حراك به نسأل الله حسن العون
[بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة]
إعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها ولكن يجمعها ست جمل وهي حُضُورُ الْقَلْبِ وَالتَّفَهُّمُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْهَيْبَةُ وَالرَّجَاءُ وَالْحَيَاءُ
فَلْنَذْكُرْ تَفَاصِيلَهَا ثُمَّ أَسْبَابَهَا ثُمَّ الْعِلَاجَ فِي اكْتِسَابِهَا
أَمَّا التَّفَاصِيلُ فَالْأَوَّلُ حُضُورُ الْقَلْبِ وَنَعْنِي بِهِ أَنْ يَفْرَغَ الْقَلْبُ عَنْ غَيْرِ مَا هُوَ مُلَابِسٌ لَهُ وَمُتَكَلِّمٌ بِهِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ مَقْرُونًا بِهِمَا وَلَا يَكُونُ الْفِكْرُ جائلاً في غيرهما ومهما انصرف في الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء فقد حصل حضور القلب ولكن التفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو الذي أردناه بالتفهم
وهذا مقام يتفاوت الناس فيه إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات
وَكَمْ مِنْ مَعَانٍ لَطِيفَةٍ يَفْهَمُهَا الْمُصَلِّي فِي أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر فإنها تفهم أموراً تلك الأمور تمنع عن الفحشاء لا محالة
وأما التعظيم فهو أمر وراء حضور القلب والفهم إذ الرجل يخاطب عبده بكلام هو حاضر القلب
(١) حديث إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث عمار بن ياسر بنحوه