الجبال والأحجار والمعادن وكيف جعل الأرض قطعاً متجاورات مختلفة فإن فتشت علمت أن رغيفاً واحداً لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين مالم يعمل عليه أكثر من ألف صانع فابتدىء من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال من جهة الملائكة حتى تنتهى النوبة إلى عمل الإنسان فإذا استدار طلبه قريب من سبعة آلاف صانع كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات حتى إن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على يد الإبري خمساً وعشرين مرة ويتعاطى في كل مرة منها عملاً فلو لم يجمع الله تعالى البلاد ولم يسخر العباد وافتقرت إلى عمل المنجل الذي تحصد به البر مثلاً بعد نباته لنفذ عمرك وعجزت عنه أفلا ترى كيف هدى الله عبده الذي خلقه من نطفة قذرة لأن يعمل هذه الأعمال العجيبة والصنائع الغريبة فانظر إلى المقراض مثلاً وهما جلمان متطابقان ينطبق أحدهما على الآخر فيتناولان الشيء معاً ويقطعانه بسرعة ولو لم يكشف الله تعالى طريق اتخاذه بفضله وكرمه لمن قبلنا وافتقرنا إلى استنباط الطريق فيه بفكرنا ثم إلى استخراج الحديد من الحجر وإلى تحصيل الآلات التي بها يعمل المقراض وعمر الواحد منا عمر نوح وأوتي أكمل العقول لقصر عمره عن استنباط الطريق في إصلاح هذه الآلة وحدها فضلاً عن غيرها فسبحان من الحق ذوي الأبصار بالعميان وسبحان من منع النبيين مع هذا البيان فانظر الآن لو خلا بلدك عن الطحان مثلاً أو عن الحداد أو عن الحجام الذي هو أخس العمال أو عن الحائك أو عن واحد من جملة الصناع ماذا يصيبك من الأذى وكيف تضطرب عليك أمورك كلها فسبحان من سخر بعض العباد لبعض حتى نفذت به مشيئته وتمت به حكمته ولنوجز القول في هذه الطبقة أيضاً فإن الغرض التنبيه على النعم دون الاستقصاء
[الطرف السابع في إصلاح المصلحين]
اعلم أن هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم ببعض بل كانوا كالوحوش لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد فانظر كيف ألف الله تعالى بين قلوبهم وسلط الأنس والمحبة عليهم {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع مما يطول إحصاؤه ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها ففي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة وذلك مما يؤدي إلى التقاتل والتنافر فانظر كيف سلط الله تعالى السلاطين وأمدهم بالقوة والعدة والأسباب وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعاً وكرهاً وكيف هدى السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء البلد كأنها أجزاء شخص واحد تتعاون على غرض واحد ينتفع البعض منها بالبعض فرتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق واضطروا الخلق إلى قانون العدل وألزموهم التساعد والتعاون حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب والخباز وسائر أهل البلد وكلهم ينتفعون بالحداد وصار الحجام ينتفع بالحراث والحراث بالحجام وينتفع كل واحد بكل واحد بسبب ترتيبهم واجتماعهم وانضباطهم تحت ترتيب السلطان وجمعه كما يتعاون جميع أعضاء البدن وينتفع بعضها ببعض وانظر كيف بعث الأنبياء عليهم السلام حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق وقوانين السياسة في ضبطهم وكشفوا من أحكام الإمامة والسلطنة وأحكام الفقه