مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب كما أن الرغبة في المال نقص والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالاً فهي أيضاً نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده وكان لايمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلها فكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثلهذه المشاهدة وإنما لم يترك استعمال الدواء جرياً على سنة الله تعالى وترخيصاً لأمته فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال فإن ذلك يعظم ضرره نعم التداوي لا يضر الامن حيث رؤية الدواء نافعاً دون خالق الدواء وهذا قد نهي عنه ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي وذلك منهي عنه والمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعاً بنفسه بل من حيث إنه جعله الله تعالى سبباً للنفع كما لا يرى الماء مروريا ولا الخبز مشبعاً فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب فإنه إن اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات وأن واحداً من الفعل والترك ليس شرطاً في التوكل إلا ترك الموهومات كالكي والرقي فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين
[بيان أحوال المتوكلين في إظهار المرض وكتمانه]
اعلم أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر وهو من أعلى المقامات: لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله عز وجل فكتمانه أسلم عن الآفات
ومع هذا فالإظهار لا بأس به إذا صحت فيه النية والمقصد ومقاصد الإظهار ثلاثة: الأول: أن يكون غرضه التداوي فيحتاج إلى ذكره للطبيب فيذكره لا في معرض الشكاية بل في معرض الحكاية لما ظهر عليه من قدرة الله تعالى فقد كان بشر يصف لعبد الرحمن المطبب أوجاعه وكان أحمد بن حنبل يخبر بأمراض يجدها ويقول: إنما أصف قدرة الله تعالى في
الثاني: أن يصف لغير الطبيب وكان ممن يقتدى به وكان مكيناً في المعرفة فأراد من ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى أن المرض نعمة فيشكر عليها فيتحدث به كما يتحدث بالنعم قال الحسن البصري: إذا حمد المريض الله تعالى وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى
الثالث: أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى وذلك يحسن ممن تليق به القوة والشجاعة ويستبعد منه العجز كما روي أنه قيل لعلي في مرضه رضي الله عنه كيف أنت قال: بشر فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك وظنوا أنه شكاية فقال: أتجلد على الله فأحب أن يظهر عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة وتأدب فيه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم إياه حيث مرض علي كرم الله وجهه فسمعه // حديث: أنه عرضت عليه خزائن الأرض فأبى ان يقبلها ولفظه: عرضت عليه مفاتيح خزائن السماء وكنوز الأرض فردها