فقال لها أبو حازم من هذا كله بد ولكن لا بد لنا من الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدي الله تعالى ثم الجنة أو النار
وقيل للحسن لم لا تغسل ثيابك قال الأمر أعجل من ذلك
وقال إبراهيم ابن أدهم قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل
وقال ابن مسعود رضي الله عنه ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً
وقال بعض السلف نعمة الله علينا فيما صرف عنا أكثر من نعمته فيما صرف إلينا وكأنه التفت إلى معنى قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه (١) فإذا فهم هذا علم أن النعمة في المنع المؤدي إلى الصحة أكبر منها في الإعطاء المؤدي إلى السقم
وكان الثوري يقول الدنيا دار التواء لا دار استواء ودار ترح لا دار فرح من عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن على شقاء
وقال سهل لا يخلص العمل لمتعبد حتى يفرغ من أربعة أشياء الجوع والعري والفقر والذل
وقال الحسن البصري أدركت أقواماً وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يأسفون على شيء منها أدبر ولهي كانت في أعينهم أهون من التراب كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يطوله ثوب ولم ينصب له قدر ولم يجعل بينه وبين الأرض شيئاً ولا أمر من في بيته بصنعة طعام قط فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا في شكرها وسألوا الله أن يقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها لهم فلم يزالوا على ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة رحمة الله عليهم ورضوانه
بيان درجات الزهد وأقسامه بالإضافة إلى نفسه وإلى المرغوب عنه وإلى
المرغوب فيه
اعلم أن الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث الدرجة الأولى وهي السفلى منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها وهذا يسمى المتزهد وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كيسه والزاهد أولاً يذيب كيسه ثم يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه والمتزهد على خطر فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليل أو كثير
الدرجة الثانية الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهماً لأجل درهمين فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه وهذا أيضاً نقصان الدرجة الثالثة وهي العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده إذ لا يرى أنه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء
(١) حديث إن الله يحيي عبده المؤمن من الدنيا الحديث تقدم