للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخراز كنت في البادية فنالني جوع شديد فغلبتني نفسي أن أسأل الله تعالى طعاماً فقلت ليس هذا من أفعال المتوكلين فطالبتني أن أسأل الله صبرا فلما هممت بذلك سمعت هاتفاً يهتف بي ويقول

ويزعم أنه منا قريب ... وأنا لا نضيع من أتانا

ويسألنا على الإقتار جهداً ... كأنا لا نراه ولا يرانا

فقد فهمت أن من انكسرت نفسه وقوي قلبه ولم يضعف بالجبن باطنه وقوي إيمانه بتدبير الله تعالى كان مطمئن النفس أبداً واثقاً بالله عز وجل فإن أسوأ حاله أن يموت ولا بد أن يأتيه الموت كما يأتي من ليس مطمئناً فإذن تمام التوكل بقناعة من جانب ووفاء بالمضمون من جانب والذي ضمن رزق القانعين بهذه الأسباب التي دبرها صادق فاقنع وجرب تشاهد صدق الوعد تحقيقاً بما يرد عليك من الأرزاق العجيبة التي لم تكن في ظنك وحسابك ولا تكن في توكلك منتظراً للأسباب بل لمسبب الأسباب كما لا تكون منتظراً لقلم الكاتب بل لقلب الكاتب فإنه أصل حركة القلم والمحرك الأول واحد فلا ينبغي أن يكون النظر إلا إليه وهذا شرط توكل من يخوض البوادي بلا زاد أو يقعد في الأمصار وهو خامل

وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب ولا يحتسب على الدوام بل يأتيه أضعافه فتركه التوكل واهتمامه بالرزق غاية الضعف والقصور فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب فالاهتمام بالرزق قبيح بذوى الدين وهو بالعلماء أقبح لأن شرطهم القناعة والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل من كسبه فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن فإن الكسب يمنع عن السير بالفكر الباطن فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى لأنه تفرغ لله عز وجل وإعانة للمعطي على نيل الثواب ومن نظر إلى مجاري سنة الله تعالى علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب ولذلك سأل بعض الأكاسرة حكيماً عن الأحمق المرزوق والعاقل المحروم فقال أراد الصالح أن يدل على نفسه إذ لو رزق كل عاقل وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه فلما رأوا خلافه علموا أن الرازق غيرهم ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم قال الشاعر

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم

[بيان أحوال المتوكلين في التعلق بالأسباب بضرب مثال]

اعلم أن مثال الخلق مع الله تعالى مثل طائفة من السؤال وقفوا في ميدان على باب قصر الملك وهم محتاجون إلى الطعام فأخرج إليهم غلماناً كثيرة ومعهم أرغفة من الخبز وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين رغيفين وبعضهم رغيفاً رغيفاً ويجتهدوا في أن لا يغفلوا عن واحد منهم وأمر منادياً حتى نادى فيهم أن اسكنوا ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا إليكم بل ينبغي أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه فإن الغلمان مسخرون وهم مأمورون بأن يوصلوا إليكم طعامكم فمن تعلق بالغلمان وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا فتح باب الميدان وخرج اتبعته بغلام يكون موكلاً به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم عندي ولكن أخفيه ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد أتاه من يد الغلام وهو ساكن فإني أختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر ومن ثبت في مكانه ولكنه أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه ولا خلعة له ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئاً فبات الليلة جائعاً غير متسخط للغلمان

<<  <  ج: ص:  >  >>