ولا قائلاً ليته أوصل إلي رغيفاً فإني غداً أستوزره وأفوض ملكي إليه فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام قسم غلبت عليهم بطونهم فلم يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة وقالوا من اليوم إلى غد فرج ونحن الآن جائعون فبادروا إلى الغلمان فآذوهم وأخذوا الرغيفين فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد المذكور فندموا ولم ينفعهم الندم وقسم تركوا التعلق بالغلمان خوف العقوبة ولكن أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة وما فازوا بالخلعة وقسم قالوا إنا نجلس بمرأى من الغلمان حتى لا يخطئونا ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفاً واحداً ونقنع به فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة وقسم رابع اختفوا في زوايا الميدان وانحرفوا عن مرأى أعين الغلمان وقالوا إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد وإن أخطأونا قاسينا شدة الجوع الليلة فلعلنا نقوى على ترك التسخط فننال رتبة الوزارة ودرجة القرب عند الملك فما نفعهم ذلك إذ اتبعهم الغلمان في كل زاوية وأعطوا كل واحد رغيفاً واحداً وجرى مثل ذلك أياماً حتى اتفق على الندور أن اختفى ثلاثة في زاوية ولم تقع عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش فباتوا في جوع شديد فقال اثنان منهم ليتنا تعرضنا للغلمان وأخذنا طعامنا فلسنا نطيق الصبر وسكت الثالث إلى الصباح فنال درجة القرب والوزارة فهذا مثال الخلق والميدان هو الحياة في الدنيا وباب الميدان الموت والميعاد المجهول يوم القيامة والوعد بالوزارة هو الوعد بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعاً راضياً من غير تأخير ذلك إلى ميعاد القيامة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون والمتعلق بالغلمان هو المعتدي في الأسباب والغلمان المسخرون هم الأسباب والجالس في ظاهر الميدان بمرأى الغلمان هم المقيمون في الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون والمختفون في الزوايا هم السائحون في البوادي على هيئة التوكل والأسباب تتبعهم والرزق يأتيهم إلا على سبيل الندور فإن مات واحد منهم جائعاً راضياً فله الشهادة والقرب من الله تعالى وقد انقسم الخلق إلى هذه الأقسام الأربعة ولعل من كل مائة تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة الباقية في الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم واشتهارهم وساح في البوادي ثلاثة وتسخط منهم اثنان وفاز بالقرب واحد ولعله كان كذلك في الأعصار السالفة وأما الآن فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف
الفن الثاني في التعرض لأسباب الادخار فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب فله في الادخار ثلاثة أحوال الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت فيأكل إن كان جائعاً ويلبس إن كان عارياً ويشتري مسكناً مختصراً إن كان محتاجاً ويفرق الباقي في الحال ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به من يستحقه ويحتاج إليه فيدخره على هذه النية فهذا هو الوفي بموجب التوكل تحقيقاً وهي الدرجة العليا الحالة الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكل أن يدخر لسنة فما فوقها فهذا ليس من المتوكلين أصلاً وقد قيل لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة الفأرة والنملة وابن آدم الحالة الثالثة أن يدخر لأربعين يوماً فما دونها فهذا هل يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين اختلفوا فيه فذهب سهل إلى أنه يخرج عن حد التوكل
وذهب الخواص إلى أنه لا يخرج بأربعين يوماً ويخرج بما يزيد على الأربعين
وقال أبو طالب المكي لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضاً وهذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض التوكل فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له وكل ثواب موعود على رتبة فإنه يتوزع على تلك الرتبة وتلك الرتبة لها بداية