ما اهتدوا به إلى إصلاح الدنيا فضلاً عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين وانظر كيف أصلح الله تعالى الأنبياء بالملائكة وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذى لاواسطه بينه وبين الله تعالى فالخباز يخبز العجين والطحان يصلح الحب بالطحن والحراث يصلحه بالحصاد والحداد يصلح آلات الحراثة والنجار يصلح آلات الحداد وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة والسلطان يصلح الصناع والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم والعلماء يصلحون السلاطين والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام ومطلع كل حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف وكل ذلك نعم من رب الأرباب ومسبب الأسباب ولولا فضله وكرمه إذ قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} لما اهتدينا إلى هذه النبذة اليسيرة من نعم الله تعالى ولولا عزله إيانا عن أن نطمح بعين الطمع إلى الإحاطة بكنه نعمه لتشوفنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء ولكنه تعالى عزلنا بحكم القهر والقدرة فقال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فإن تكلمنا فبإذنه انبسطنا وإن سكنا فبقهره انقبضنا إذ لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى لأنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل الموت نسمع بسمع القلوب نداء الملك الجبار {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} فالحمد لله الذي ميزنا عن الكفار وأسمعنا هذا النداء قبل انقضاء الأعمار
[الطرف الثامن في بيان نعمة الله تعالى في خلق الملائكة عليهم السلام]
ليس يخفى عليك ما سبق من نعمة الله في خلق الملائكة بإصلاح الأنبياء عليهم السلام وهدايتهم وتبليغ الوحي إليهم ولا تظنن أنهم مقتصرون في أفعالهم على ذلك القدر بل طبقات الملائكة مع كثرتها وترتيب مراتبها تنحصر بالجملة في ثلاث طبقات الملائكة الأرضية والسماوية وحملة العرش فانظر كيف وكلهم الله تعالى بك فيما يرجع إلى الأكل والغذاء الذي ذكرناه دون ما يجاوز ذلك من الهداية والإرشاد وغيرهما واعلم أن كل جزء من أجزاء بدنك بل من أجزاء النبات لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة هو أقله إلى عشرة إلى مائة إلى ما وراء ذلك وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء وقد تلف وذلك الغذاء يصير دماً في آخر الأمر ثم يصير لحماً وعظما وإذا صار لحماً وعظماً تم اغتذاؤك والدم واللحم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار فهي لا تتحرك بأنفسها ولا تتغير بأنفسها ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها كما أن البر بنفسه لا يصير طحيناً ثم عجيناً ثم خبزاً مستديراً مخبوزاً إلا بصناع فكذلك الدم بنفسه لا يصير لحماً وعظماً وعروقاً وعصباً إلا بصناع والصناع في الباطن هم الملائكة كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد وقد أسبغ الله تعالى عليك نعمه ظاهرة وباطنة فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة فأقول لا بد من ملك يجذب الغذاء إلى جوار اللحم والعظم فإن الغذاء لا يتحرك بنفسه ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره ولا بد من ثالث يخلع عليه صورة الدم ولا بد من رابع يكسوه صورة اللحم والعروق أو العظم ولا بد من خامس يدفع الفضل الفاضل عن حاجة الغذاء ولا بد من سادس يلصق ما اكتسب صفة العظم بالعظم وما اكتسب صفة اللحم باللحم حتى لا يكون منفصلاً ولا بد من سابع يرعى المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته وبالعريض ما لا يزيل عرضه وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه ويحفظ على كل واحد قدر حاجته فإنه لو جمع مثلاً من الغذاء على أنف الصبي ما يجمع على فخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه وتشوهت صورته وخلقته بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها وإلى الحدقة مع صفائها وإلى الأفخاذ مع غلظها وإلى العظم مع صلابته ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل وإلا بطلت الصورة