أما بعد فإن الدنيا عدوة لله عز وجل بغرورها ضل من ضل وبمكرها زل من زل فحبها رأس الخطايا والسيئات وبغضها أم الطاعات رأس القربات
وقد استقصينا ما يتعلق بوصفها وذم الحب لها في كتاب ذم الدنيا من ربع المهلكات ونحن الآن نذكر فضل البغض لها والزهد فيها فإنه رأس المنجيات فلا مطمع في النجاة إلا بالانقطاع عن الدنيا والبعد منها لكن مقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة ونحن الآن نذكر حقيقة الفقر والزهد ودرجاتهما وأقسامهما وشروطهما وأحكامهما ونذكر الفقر في شطر من الكتاب والزهد في شطر آخر منه ونبدأ بذكر الفقر فنقول
[الشطر الأول من الكتاب في الفقر]
وفيه بيان حقيقة الفقر وبين فضيلة الفقر مطلقاً وبيان خصوص فضيلة الفقراء وبيان فضيلة الفقير على الغنى وبيان أدب الفقير في فقره وبيان أدبه في قبوله العطاء وبيان تحريم السؤال بغير ضرورة وبيان مقدار الغنى المحرم للسؤال وبيان أحوال السائلين والله الموفق بلطفه وكرمه
[بيان حقيقة الفقر واختلاف أحوال الفقير وأساميه]
اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقراً
وإن كان المحتاج إليه موجوداً مقدوراً عليه لم يكن المحتاج فقيراً وإذا فهمت هذا لم تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني الحال ودوام وجود مستفاد من فضل الله تعالى وجوده فإن كان في الوجود موجود ليس وجوده مستفاد له من غير فهو الغني المطلق ولا يتصور أن يكون مثل هذا الموجود إلا واحداً فليس في الوجود إلا غني واحد وكل من عداه فإنهم محتاجون إليه ليمدوا وجودهم بالدوام وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى {والله الغني وأنتم الفقراء} هذا معنى الفقر مطلقا ولكنا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر لأن حاجاته لا حصر لها
ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي نريد الآن بيانه فقط فنقول كل فاقد للمال فإنا نسميه فقيراً بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجاً إليه في حقه ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عن الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم لنتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها
الحالة الأولى وهي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به وهرب من أخذه مبغضاً له ومحترزاً من شره وشغله وهو الزهد واسم صاحبه الزاهد
الثانية أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه لو أتاه وصاحب هذه الحالة يسمى راضياً
الثالثة أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه بل إن أتاه صفواً عفواً أخذه وفرح به وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به وصاحب هذه الحالة نسميه قانعاً إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة
الرابعة أن يكون تركه الطلب لعجزه وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلاً إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه أو هو مشغول بالطلب وصاحب هذه الحالة نسميه بالحريص