فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح
ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له
وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر فبالضرورة يكون خيراً بالإضافة إلى الغرض لأنه متمكن من نفس المقصود وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة فالشرب خير من طلاء الصدر لأن طلاء الصدر أيضاً إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة فما بلاقى عين المعدة فهو خير وأنفع
فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعاً فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكد الرقة في قلبه ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيدا أصلاً لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه أو ظان أنه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة وكذلك من يسجد غافلاً وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتاكد به التواضع فكان وجود ذلك كعدمه وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلاً فيقال العبادة بغير نية باطلة وهذا معناه إذا فعل عن غفلة فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شراً فإنه لم يؤكد الصفة المطلوبة تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا فهذا وجه كون النية خير من العمل
وبهذا أيضاً يعرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة وإن عاق عن العمل عائق ف لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يناله التقوى منكم والتقوى ههنا صفة القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا كما تقدم ذكره لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات
وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التى أوردناها في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا نطول بالإعادة
[بيان تفصيل الأعمال المتعلقة بالنية]
اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساماً كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه فهي ثلاثة أقسام معاص وطاعات ومباحات القسم الأول المعاصي وهي لا تتغير عن موضعها بالنية فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فيظن أن المعصية تَنْقَلِبُ طَاعَةً بِالنِّيَّةِ كَالَّذِي يَغْتَابُ إِنْسَانًا مُرَاعَاةً لقلب